الأمن والاستقرار من مقومات الحياة الأساسية، التي بدونها لا يجد الناس للحياة معنى ولا لأنفسهم راحة ولا سعادة- وأحداث اليوم من حولنا خير شاهد على ذلك- فقد امتن الله تعالى على قريش بنعمة الأمن التي اكتسبها أهل مكة بسبب حرمة البيت الحرام وقدسيته فقال:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}(قريش: 3-4).
كما أن رسول (ص) قد اهتم ببسط الأمن بمفهومه السائد اليوم، ومن ذلك قيامه بتعيين حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في هذه الوظيفة ليأتيه بخبر الأحزاب يوم الخندق، كما كلف نعيم بن مسعود الأشجعي أيضا أن يكتم إيمانه ويخذل الناس عن المؤمنين في يوم الأحزاب، وفعل الأمر نفسه مع عمه العباس الذي أثبتت الروايات أنه كان يكتم إيمانه بين قريش ليعرف سرها، وأخر هجرته لأجل أداء هذه المهمة، وهو الذي كشف لرسول (ص) حجم قوة قريش عند مخرجهم إلى أُحدٍ مباغتة، بكتاب أرسله للمدينة خفية.
أما عمر رضي الله عنه فقد أثرى الموضوع، ووضع له الأسس والضوابط، وعمًّم الاهتمام به على كافة ولاته وقادته، طبقاً لسياسته الشرعية في كافة المجالات، وهو القائل "لست بالخب ولا الخب يخدعني" وهي عبارة تعكس ذكاءه وفطنته وحذره "فهو ليس ذكاء هجوم ولا ذكاء مراوغة أو مقاومة، إنما ذكاء تفوق يتفجر من شخصية متفوقة ويعمل في خدمة مبادئ متفوقة".
كتب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو في طريقه إلى القادسية يقول: "إذا وطئت أدنى أرض العدو فاذك العيون بينك وبينهم- أي بثها - حتى لا يخفى عليك أمرهم، وأختر لهذا من تطمئن إلى نصحه وصدقه، فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدق في بعضه، والغاش عين عليك وليس عيناً لك".
فإن عمر رضي الله عنه يؤكد في هذا السياق والكلمات، اهتمامه برجل الأمن والاستخبارات، وبدوره الحيوي في الحياة كافة، وإن ذلك من أسباب النجاح والانتصار في كل الميادين، وجزء هام من عوامل الاستقرار والتمكين بعد النصر، بل يذهب لأكثر من ذلك حين يحدد سمات ومميزات رجل الأمن التي تمكنه من أداء مهمته بنجاح . كالذكاء، والصدق والأمانة والحذر والانضباط وحسن السلوك والتصرف.
كما يكشف رضي الله عنه عن تطبيقاته العملية في هذا المجال: من إحسان اختيار العيون، ثم بثها في موطن العدو لتحديد طبيعة المعركة، وكشف خططهم وتدابيرهم، ثم اتخاذ ما يلزم من الحيطة والحذر، تحاشياً لمباغتة الأعداء وغدرهم المعهود دوماً، ثم يقول "وإذا دنوت من أرض العدو فأكثر الطلائع وبث السرايا، أما السرايا فتقطع إمدادهم ومرافقهم، وأما الطلائع فتبلوا أخبارهم، وانتق للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك".
فإن ذلك لمن أنجح وسائل الحماية للدين والنفس والوطن، ومن أصدق صفات القيادة الحكيمة.
وهكذا فإن عمر رضي الله عنه قد وضع قواعد هذا الفن, وحدد صفات الرجل المناسب لهذه المهمة الصعبة، ومن أهمها: التقوى والصدق والصبر والأمانة والذكاء، إلى جانب واجب القائد في الاهتمام والمتابعة والتثبت في هذا الأمرالحيوي.
ولا يكتفي عمر رضي الله عنه بمعرفة أحوال الناس وصدق نواياهم ثم الاطمئنان إليهم، بل كان عليماً بأحوال الناس، فطناً، لا ينظر إليهم من جانب واحد- خيراً أو شراً- بل علم الدنيا وعلم كيف يتقلب الإنسان، وراح في علمه هذا يراقب الناس مراقبة الحذر، ويقيم عليهم الأرصاد، مراقبة الرجل الذي لا يفوته أن ينتظر منهم ما ينتظر من خير وشر وقوة وضعف وصلاح وفساد وهو الذي يتمثل دائما قول الشاعر:
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه + ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه
سئل ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم فقال: (كان كالطير الحذر يرى أن له بكل طريق شركاً يأخذ).
فهم خاطئ:
وما تلزم الإشارة إليه والتذكير به في هذا المقام ،إن قطاعا واسعا من عامة الناس في تاريخنا المعاصر يعتقدون أن العمل في مجال الأمن والاستخبار من دواعي البعد عن مواطن الرحمة والأمانة والعفة والكرامة، وتبعا لذات الفهم فإن كثيرا من العاملين في هذا القطاع يتجردون من الفضائل والمحامد ومسالك اللين ومكارم الأخلاق، دون ضرورة ملجئة لذلك، اعتقاداً منهم إنها من مقتضيات عملهم ومستلزماته، لذا صار من المعلوم بالضرورة أن معتقلات وسجون وعذابات رجال الأمن في الوطن الإسلامي أسوأ من ويلات المستعمر وظلاما ته.
إنه فهم يجب تصحيحه. إن القائم على مثل هذا العمل لهو قائمٌ على ثغرةٍ عظيمةٍ ، ينبغي أن يستعين عليها بالتقوى والطاعة والاعتماد على الله أولاً، ثم ليعلم أنها عمل عظيم، ومهمة كبيرة تحتاج لانضباط أكبر، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}{محمد: 7} وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم ... وإلاَّ نُنصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا).
أما استغلال المنصب والتعدي على حرمات الآخرين، وهتك أسرارهم دون حجة أو مسوغ مقبول، فهو من مثبطات الأمة ومحبطاتها. قال صاحب فقه السيرة النبوية : (يجوز للإمام أن يستعين في الجهاد وغيره بالعيون والمراقبين، يبثهم بين الأعداء ليكشف المسلمون خططهم وأحوالهم... ويجوز اتخاذ مختلف الوسائل لذلك، بشرط ألا تنطوي الوسيلة على الإضرار بمصلحة هي أهم من مصلحة الإطلاع على حال العدو، وربما استلزمت الوسيلة تكتماً أو نوعاً من المخادعة أو التحايل، وكل ذلك مشروع وحسن من حيث أنه واسطة لابد منها لمصلحة المسلمين وحفظهم).
التسميات
عمر بن الخطاب