من المعلوم أن عمر رضي الله عنه قد طور نظم الحكم وهياكل الإدارة التي ورثها عن صاحبيه وأسس بعض الدواوين التي لم يسبق لها وجود في هيكل الدولة الإسلامية، كما بسطنا الحديث عن ذلك في مقامه، ومن بين هذه التدابير قيامه بترتيب نظام القضاء وتعيين القضاة في الأمصار والولايات.
فقام بوضع المبادئ العامة لإجراءات القضاء وسير المحكمة، وأروع مثال لذلك كتابة لأحد قضاته بالأمصار، موضحاً فيه منهج القضاء الذي يجب أن يتبع، والإجراءات التي ينبغي أن يسير على نهجها القاضي، إذ يقول: (من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس ... سلام عليك .
أما بعد. فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فأفهم إذا أدلي إليك وأنفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع حق لا نفاذ له).
وفي مجال الإجراءات الأولية كاستقبال الدعوة والمساواة بين المتخاصمين عند النظر في القضايا وسيرها، وإمكانية التصالح خارج إطار المحكمة، يقول:
(آسي بين الناس في مجلسك ووجهك، حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً).
وعن عدم سقوط الحق بالتقادم وإمكانية استئنافه، يقول:
(ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك وهديت لرشدك أن ترجع إلى الحق: فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل).
وعن ضرورة الالتزام بالنص، والعمل بالسوابق المشابهة، وإمكانية تأجيل الفصل في القضية لسبب معقول، يقول: (الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، وأعرف الأشباه والأمثال، ثم قس الأمور عند ذلك، وأعمد إلى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق فيما ترى، واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا استحللت عليه القضاء، فإن ذلك أنفى للشك، وأجلى للعمى، وأبلغ في العذر).
وعن الشهود وشروطهم، يقول:
(المسلمون عدول في الشهادة بعضهم على بعض، إلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاءٍ أو قرابةٍ، فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ عنكم الشبهات).
وعن هيئة المحكمة وأدب القاضي أمام الخصوم وضرورة حرصه على إنجاز العدالة، يقول: (وإياك والقلق والضجر، و التأذي بالناس، والتنكر للخصوم في مواطن الحق التي يوجب الله بها الأجر، ويحسن الذخر، فإنه من يخلص نيته فيما بينه وبين الله تبارك وتعالى يكفيه الله ما بينه وبين الناس ... الخ).
فليس من قولٍ يصلح أن يكون تعليقاً على هذا المشهد الرائع والتخطيط الفذ، فلندعه ليعبر عن نفسه دون تعليق، إذ لربما التعليق يفسده.
أروع مثال للعدالة الناجزة:
وفي الجانب العملي في إنجاز العدالة ورد المظالم يضرب لنا الفاروق مثلاً رائعاً في فصله السريع والدقيق في خصومة المدعى عليه فيها ابن أحد ولاته.
يتقدم إلى أمير المؤمنين أحد أفراد الرعية يشتكي من اعتداء ابن الوالي عليه دون ذنب، فيسمع عمر رضي الله عنه إلى تفاصيل الشكوى، ويصدر أمرا بإحضار الوالي وابنه، ويمثلان أمامه في وقت وجيز، ينظر في القضية ثم يصدر حكمه بإنزال العقوبة على ابن الوالي، ويعزم على تعزير الوالي نفسه لانحيازه إلى جانب ابنه وعدم إنصافه الرعية، ثم يطلقها صيحة تدوي في عالم العدالة إلى يوم العدل والجزاء: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً).
وقد ورد أن عمر رضي الله عنه مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب المساجد، فقال: ما أنصفناك. كنا أخذنا منك الجزية في شبابك ثم ضيعناك في كبرك. ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه.
التسميات
عمر بن الخطاب