المسار التاريخي والمعاصر للاقتصاد الفلسطيني.. التراجع بسبب التعقيدات الاسرائيلية والحصار وتدمير المقومات في سنوات الانتفاضة

يتسم الاقتصاد الفلسطيني بخصوصية، تميزه عن باقي اقتصاديات البلدان العربية، فمنذ نكبة عام 1948، وفقدانه لقاعدته الإنتاجية، تعرض ما بقي من مكوناته، لأوضاع سياسية جديدة في الضفة الغربية عبر إلحاقها للنظام الأردني، وفي قطاع غزة عبر الوصاية المصرية عليها ، فرضت على اقتصاد كل من الضفة والقطاع ، التكيف مع الأوضاع الجديدة.
وعلى اثر الاحتلال الصهيوني، للضفة والقطاع، في حزيران 1967، تعرض الاقتصاد الفلسطيني فيهما لأوضاع قسرية جديدة أفقدته القدرة على النمو والتطور بعيدا عن شروط الاحتلال وتحكمه في كافة الموارد الاقتصادية والقطاعات الإنتاجية وغير الإنتاجية، عبر سياسات وأوامر عسكرية، حالت دون تطور أو نمو بنيته الاقتصادية بما يتعارض مع تلك السياسات، وعبر تعميق تبعيته  للاقتصاد الإسرائيلي ، بما يضمن استمرار ترابط وتواصل هذه التبعية في كل الظروف التي تتيح للعدو الاسرائيلي استمرار تلك العلاقة.
ومع توقيع إعلان المبادئ في أوسلو، تم خلق أسس ومعطيات لبداية مرحلة جديدة من مراحل التطور في حياة شعبنا الفلسطيني عموماً، و في الضفة والقطاع خصوصاً، لا تؤثر في الجانب السـياسي فحسب، بل أيضا تؤثر في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية بصورة متداخلة ومترابطة عضويا، بين كافة هذه الجوانب، وكان قيام السلطة الفلسطينية، في أيار 1994، التعبير الرئيسي المباشر عن طبيعة هذه المرحلة الجديدة، وتداخل الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كعنوان موحد ورئيسي شامل، لم يسبق لقيادة م.ت.ف أو قيادة السلطة أن تعاطت معه بهذه الشمولية والاتساع والترابط والتعقيد، بسبب طغيان أو أولوية الدور أو الجانب السياسي في المرحلة السابقة على كل ما عداه من أدوار أو جوانب، ذلك أن استلام السلطة الفلسطينية لمهامها على أجزاء محدودة جغرافيا من الأراضي الفلسطينية، لم تتجاوز حتى اليوم نسبة 18%  من المساحة الإجمالية للأراضي المحتلة، وتسلمها لصلاحيات ومسئوليات مجتمعية جديدة، في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية وغيرها من المجالات، بما فرض عليها التعاطي مع الواقع والمسئوليات الجديدة، وفق قنوات وآليات وشروط أوسلو وما تلاها من اتفاقات، بمفاهيم ووتائر وأدوات وأساليب، مغايرة إلى حد كبير مع تلك المفاهيم والأدوات التي حكمت التعامل بين جميع أطراف التحالف الوطني الفلسطيني في إطار م.ت.ف في المرحلة السابقة على قيام السلطة، وبما يتقاطع إلى حد كبير مع الشروط الإسرائيلية كما وردت في اتفاقات أوسلو وبروتوكول باريس وغير ذلك من الاتفاقيات والتفاهمات اللاحقة.
ولذلك، وفي سياق متابعتنا –بصورة موضوعية- لهذه المرحلة الجديدة منذ بدايتها، لم نفاجأ بعدم جدية السلطة الفلسطينية في السعي نحو صياغة السياسات الوطنية الاقتصادية التنموية، والتصدي للمشكلات الحياتية الأساسية بما يخدم تطلعات ومصالح جماهيرنا الفلسطينية التي علقت – في الشهور الأولى على قيام السلطة – وبصورة عفوية آمالا كبيرة تمحو من واقعهم وأذهانهم آثار الذل والقهر والمعاناة على مدى ثلاثين عاما من الاحتلال، ولكن – ومنذ بداية العام الثاني على قيام السلطة – اصطدمت تلك الآمال بممارسات سياسية واقتصادية واجتماعية داخلية، شكلت نقيضا لكل ما توقعته أو عولت عليه جماهيرنا.
لذلك فإن كل ما يجري اليوم –بعد مرور ما يقرب على عشر سنوات على قيام السلطة- من تفاقم مظاهر الخلل والانحرافات والفساد الذي يطال كافة الجوانب الحياتية ، إلى جانب تفاقم المأزق السياسي ، بقدر ما هو تعبير عن تلك التراكمات التي جعلت من المأزق الراهن أمرا حتميا بفعل تلك الاتفاقات ومضامينها، ودورها في تمزيق وحدة شعبنا في الخارج والداخل، وعرقلة نمو اقتصادنا، وإضعافه واستمرار تبعيته، عبر استمرار صعود و هيمنة الشرائح الطبقية البورجوازية البيروقراطية والطفيلية المتنفذه في قيادة السلطة ومؤسساتها، التي عززت نمو وتوسع عوامل نضوج المصالح الطبقية الانانية ذات الطابع الطفيلي وشرائحها التي تتوزع على، لدى قطاع واسع من القيادات والكوادر الحكومية من ناحية وتفاعلها مع الشرائح الكمبرادورية والطفيلة في القطاعات الاقتصادية عموماً والقطاعات التجارية والعقارية والمقاولات خصوصاً، الأمر الذي راكم بالضرورة مزيد من عوامل الأزمة الاقتصادية - المجتمعية واستفحالها، - الى جانب بروز وتبلور مؤشرات ورموز الهبوط السياسي التي دفعت الى تفاقم المأزق السياسي ومخاطرة الجدية الراهنة على مشروعنا الوطني برمته.
 وارتباطاً بهذا الواقع، كان من الطبيعي أن تتوالد بصورة متزايدة ، مظاهر الفوضى والاحتكار وتراكم الثروات الخاصة والطارئة بصورة غير مشروعة، وتراجع النمو الاقتصادي المرتبط بالبعد التنموي المجتمعي – دون إغفال دور سياسات وممارسات العدو الإسرائيلي -، وعدم توظيف أو استغلال الإمكانات والتوجهات ذات البعد الإيجابي للقطاعين العام والخاص لرأس المال الفلسطيني في الداخل والشتات، وتقديم الاعتبار الفئوي السياسي فيما يتعلق بالجوانب الاقتصادية – الاجتماعية واستمرار التفرد المطلق في القيادة على صعيد السياسة والاقتصاد، والإدارة،  كل هذه العوامل وما تنتجه من آثار سلبية، عززت هذا المسار الهابط في الأوضاع الاقتصادية خلال العشر سنوات العجاف الماضية.
هذه الصورة العامة، التي باتت اليوم أحد أهم مكونات النقد والاستياء والتذمر في الذهنية الشعبية الفلسطينية عند الحديث عن الأوضاع الاقتصادية، تبين لنا أن المشكلة الاقتصادية ليست مشكلة مالية وإدارية فحسب، وإنما هي مشكلة في طبيعة تشكل البنية والمنهج معا في منظومة الفعل السياسي- الاقتصادي من حيث عدم وضوح الهدف والخطة والتنفيذ من ناحية، وبما يخدم مصلحة الفئات والشرائح المتنفذة من ناحية ثانية، مما ساهم في تغييب الدور الإيجابي للقطاع العام والدولة والوزارات، وما يعنيه ذلك من غيـاب التخطـيط العـلمي الهادف الى حصـر المـوارد الماديـة، والطبيعيـة والبشرية، ووضع وتطبيق الخطط التي تكفل تطور عملية النمو والتنمية الاقتصادية وفق مفاهيم وآليات اقتصاد التقشف والصمود، الأمر الذي لم يدفع نحو زعزعة الثقة لدى الجماهير الشعبية فحسب، بل وساهم أيضا في زعزعة الثقة لدى القطاع الخاص في الداخل، والمستثمرين في الخارج.
فخلال العشر سنوات الماضية تعرض الاقتصاد الفلسطيني لحركة متعرجة من النمو والتراجع بسبب عوامل داخلية فلسطينية من جهة، وبسبب التعقيدات الاسرائيلية طوال الفترة منذ عام 1994 والمستمرة حتى نهاية هذا العام 2003 جهة ثانية، والتي استفحلت واشتدت عبر الحصار وتدمير مقومات الاقتصاد الفلسطيني في سنوات الانتفاضة منذ عام 2000 حتى اليوم.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال