مها عبود باعشن رحالة في مركب السرد.. الرواية السعودية غالبا تكون رواية عبر الأماكن على عكس الرواية المصرية التي تلتزم غالبا بوحدة المكان

مها عبود باعشن مبدعة سعودية لها في مجال السرد رواية "وضاء" ومحموعة قصصية "غربة روح وجسد" غير أنها شاعرة لها ديوان "الجمال نداء خطير" بالإضافة إلى خواطر حرة يغلب عليها الصياغة الإيقاعية التصويرية عنوانها "امرأة من الشرق" والكتابة الانطباعية الحرة تذكرنا بكتاب "أوراق الورد" للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي أو بكتابات الأديب المهجري الأشهر جبران خليل جبران في "النبي" وإن كانت نثريات الرافعي وجدانية بينما ينحو جبران إلى التأمل الفكري محتفظا بروح الشاعر الصافية.
وإذا كنا قد ذكرنا جبران وهو كاتب ورسام فإن مها عبود باعشن فنانة تشكيلية شاركت في معارض كثيرة وهذا بالطبع ينعكس في إبداعها الأدبي مثلما انعكس الفن التشكيلي في كتابات جبران وصوره الشعرية التي يعرفها كثير عن طريق بعض قصائده الذائعة الصيت مثل "سكن الليل" أو "أعطني الناي", فالإبداع الشعري والسردي أيضا يفيد من الفنون الجميلة بوصف الفنون كلها نابعة من هبة البيان التي وهبها الله –سبحانه وتعالى- للإنسان.
وفي معرض حديثنا عن رواية "وضاء" لا بد من الإشارة إلى سمة عامة للرواية السعودية وهي أنها في معظم الأحيان تكون رواية عبر الأماكن وذلك على عكس الرواية المصرية التي تلتزم في غالب الأحيان بوحدة المكان, فثلاثية محفوظ (بين القصرين/ قصر الشوق/ السكرية) تدور في القاهرة وعلى وجه التحديد في القاهرة الفاطمية التي يعد الجامع الأزهر مركزا لها والأعمال التي كتبها نجيب محفوظ وتقع خارج القاهرة قليلة جدا لا يكاد القارئ يذكر منها إلا رواية "ميرامار" التي تقع في فندق صغير بالإسكندرية أو رواية "السمان والخريف"  التي تدور بين القاهرة والإسكندرية أيضا.
وأهم روايات يوسف إدريس تدور في الريف المصري وهي "الحرام" بينما تدور أحداث روايته الأخرى "العيب" في القاهرة ولا يكاد يوسف إدريس يخرج إلى أوربا أو أمريكا إلا حينما يتحدث عن بطل مثقف مغترب يناقش قضية العلاقة بين الشرق والغرب مثلما هو الحال في أعماله التي يمكن أن نطلق عليها ثلاثية الحوار الحضاري وتتمثل في: "البيضاء" و"فيينا 60" و"نيويورك80" بمعنى أن الكاتب المصري لا يخرج بالعالم القصصي من بلاده إلا في حالات قليلة أهمها رواية التفاعل الحضاري مثل ثلاثية يوسف إدريس السابق ذكرها أو "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم
وهنا ونحن بصدد دراسة رواية سعودية نتساءل: لماذا كان الشعر هو فن العرب الأول قديما ثم أتت القصة فيما بعد؟
والإجابة هي أن الشعر فن فطري غنائي يعلن عن إحساس الذات في انتمائها للقبيلة ومواجهتها للآخر ونتيجة الترحال الذي عاشته القبائل كان الشعر سلاحا تواجه به الآخر وتعلن به عن وجودها حتى عندما يجتمع الشعراء في سوق عكاظ كان كل واحد منهم يعلن عن وجوده من خلال انتمائه لقبيلته.. أما الرواية فهي الفن الذي يعبر عن الاستقرار لذلك كان ظهور الرواية في الأدب العربي مرتبطا بنشأة الدولة فحينما ألف الناقد الكبير فاروق خورشيد دراسته التأصيلية للقصة العربية "في الرواية العربية –عصر التجميع-" رأى أن كتاب "أخبار ملوك اليمن" لعبيد بن شرية الجرهمي يعد من أوائل الروايات العربية وكتاب عبيد بن شرية "أخبار ملوك اليمن هذا مجموعة حكايات كان عبيد يحكيها لمعاوية بن أبي سفيان, معنى ذلك أن القصة ارتبطت باستقرار الدولة العربية من خلال ارتباطها بشخصية معاوية الذي أسس الدولة الأموية واتخذ من دمشق عاصمة لها وكان عبيد يحكي لمعاوية قصص أخبار ملوك اليمن مقدما له النصح كي يبتعد عن الغرور والطغيان لدرجة أن المؤلف عبيد بن شرية طلب من معاوية الانصراف عنه لأنه سيغضب من الأخبار والحكايات فمنحه معاوية الأمان وأصر على الاستماع منه.
من هذا العرض يبدو لنا أن فكرة كتاب أخبار ملوك اليمن قريبة من فكرة "ألف ليلة وليلة" التي تعلم فيها المرأة التي تمثل الأرض والشعب "شهرزداد" الرجل الذي يمثل الحكم والسلطة "شهريار" عن طريق الدراما فالذي لاشك فيه أن الدراما وسيلة تثقيف وتعليم وليست خطابا جماليا فقط. "
نعود إلى رواية "وضاء" لمها عبود باعشن فهي تبدأ في أمريكا وفي مدينة "نيويورك" بالتحديد من خلال شخصية الدكتور سيف الذي يمثل السعودي المغترب للعلم والعمل ويرتبط بشخصية "فيض" التي تمثل جيلا عربيا نشأ في بلاد الغربة وارتبطت حياته بالعالم الجديد وإن ظلت ثقافته ولغته وهويته ومنظومة قيمه مرتبطة بجذوره العربية وبعد زواج سيف وفيض تولد "وضاء" التي أطلقت المؤلفة اسمها على الرواية ولكن الأسرة لا تقيم هناك إلى الأبد وإنما تعود الأم والابنة إلى بيت عائلة الدكتور سيف في السعودية لأن سيف يرحل في مهام طبية وظيفية إلى الشرق الأقصى وبعودة وضاء إلى السعودية تبدأ رحلة اكتشاف البلاد بعين جديدة عين ترى الأصالة والحداثة معا بعد أن كانت ترى في ذاكرتها صورة نمطية للعالم العربي أو للشرق.
وتبدأ سلسلة من الحكايات بين فيض وسيدات البيت الكبير فبعضهن يغار منها مثل "ماجدة" أخت سيف وبعضهن يتفاعل معها بحب ثم بحذر نتيجة الوشاية ثم يعود الحب مع الصفاء مرة أخرى مثل "سميرة" زوجة حمزة شقيق سيف وتمضي الحياة حتى أحداث سبتمبر 2001م وتشهدها وضاء التي ذهبت إلى نيويورك مرة أخرى من أجل الدراسات العليا في علم الاجتماع وتشهد وضاء القبض على "باسل" الذي أحبته متهما بالشغب وهو برئ ثم يموت الدكتور سيف وهو يعمل في إحدى المستشفيات الأفغانية التي تعرضت لانفجار فما يحدث في أي مكان في العالم ينعكس في أماكن أخرى وما يقع في نيويورك أو إسلام أباد أو كابول يكون له صداه في جدة فالعالم بالفعل قد تحول إلى قرية صغيرة.. إن الأحداث تدور من الغرب إلى الشرق ولكن القلب موضعه في شبه الجزيرة العربية ومع خروج الأسرة السعودية للعلم والعمل فإن البيت الكبير يضم العائلة التي يتنقل أبناؤها بين أمريكا وأوربا ومصر فالأسرة السعودية تتسع عن طريق الزواج الذي يتم في أحيان ليست بالقليلة بين الشباب السعودي ونساء من الغرب الأوربي أو الأمريكي أو من العالم العربي خارج المملكة, ويلاحظ القارئ أن الخروج للعمل والدراسة في الرواية السعودية لا يقتصر على الرجل وحده وإنما تدرس المرأة السعودية أيضا في الغرب وتشارك في تطوير بلادها وغالبا ما يكون الأب أو الأخ أو الزوج دعما لها في خروجها للعلم واكتساب خبرات عالمية تضيف إلى رصيدها الإنساني.
هذه الظاهرة نلمسها أيضا عند الأديب السعودي الكبير منصور الخريجي في روايته "دروس إضافية" التي كتب عنها صديقي العزيز الأستاذ الدكتور سيد قطب في كتاب "روضة النبلاء وهو الكتاب السادس ضمن سلسلة مجلدات الصالون الثقافي العربي –القاهرة –دار الهاني 1427هـ/2006م –ص283-296 وإذا كانت رواية "دروس إضافية" لمنصور الخريجي تصنف ضمن روايات الخروج كما رأى الدكتور سيد في دراسته القيمة لها فإن رواية مها عبود باعشن تعد رواية خروج وعودة وخروج وعودة بشكل متعدد وهذا ما يجعلنا نطلق على رواية "وضاء" أنها رواية "عبر المكان".
إن رواية "الخروج" لا يمكن أن تنفصل عن رواية "العودة" في الثقافة العربية فالبطل يخرج ليكتسب المعرفة ثم يعود إلى بلده بعد أن تزود بخبرات جديدة ويمكن أن نمثل لثنائية الخروج والعودة في السرد العربي بقصة "قنديل أم هاشم" ليحيي حقي فالشاب إسماعيل يخرج من حي السيدة زينب ليدرس الطب في إنجلترا ثم يعود محاولا تقليد الأجانب في كل شيء فيفشل حتى يتصالح مع مجتمعه ويعرف كيف يوفق بين رؤية الغرب للعالم ورؤية الشرق الذي يعيش فيه.. أما رواية "وضاء" لمها عبود باعشن فلا يمكن أن تصنف في مجال رواية الخروج فقط أو رواية العودة فحسب لأن دراما الخروج والعودة فيها متكررة وهذا يجعلني ألمح صفة قديمة للأدب السعودي وهو أنه ينتمي في غالب الأمر إلى أدب الرحلة سواء أكان هذا في الشعر أم في السرد.
إن روائع المعلقات القديمة مثل معلقة امرئ القيس رحلة في المكان وفي المعاني وليس بعجيب أن يطلق العرب على البناء الإيقاعي لشعرهم مصطلح البحر لأن الشاعر يبحر في الإيقاع واللغة والأفكار متنقلا من شعور إلى شعور داخل هذه التجربة الإبداعية التي يحكمها في النهاية إيقاع البحر فالمعلقة في الشعر العربي تتنوع فيها المواضيع والتجارب لكنها تظل مرتبطة بفكرة الرحلة التي تحفظ لها تماسكها..
في الرحلة القديمة كان الإنسان يتحرك في العالم.. اليوم سواء ظل الإنسان في مكانه أو غادره فإن العالم يأتي إليه كما نجد عند رجاء الصانع في روايتها "بنات الرياض".
أ.د. عبد المعطي صالح
أحدث أقدم

نموذج الاتصال