في آخر أيام الدولة المملوكية ساءت العلاقات بين المماليك وجيرانهم العثمانيين لأسباب كثيرة منها الخلاف على الحدود ومنها تأييد المماليك لأخي السلطان سليم «بكركود» في مطالبته بالعرش وانتهى ذلك باستيلاء العثمانيين على بلاد الشام ومصر وانتهى بذلك الحكم المملوكي.
اتفق أكثر المؤرخين على أنَّ السلطان العثماني سليم الأول استولى على مدينة القدس الشريف عام 1517م بعد موقعة (مرج دابق) التي جعل انتصاره فيها على المماليك الباب مفتوحاً أمامه للسيطرة على بلاد الشام ومصر.
ويقال إنّ السلطان العثماني عندما دخل القدس قام بزيارة قبور الأنبياء وزار الأماكن المقدسة التاريخية واستقبله أهل القدس بترحاب بالغ وأولموا له وليمة كبيرة في فناء الحرم إلا أنهم تعمَّدوا تقديم الطعام في أوانٍ من نوع «الهنايب» التي تدل على فقر مقدمها عادة وهم إنما فعلوا ذلك رغبة منهم في مساعدة السلطان العثماني ليخلصهم من البدو الذين كانوا يغيرون على مدينتهم وينهبونها، فوعدهم بتعلية السور وترميمه ليقيهم تلك الغارات إلا أنَّه لم يتمكن من الوفاء بعهده لعودته إلى عاصمة ملكه وقام بالوفاء به ولده سليمان القانوني بعده.
دامت عمارة السور خمسة أعوام (1536- 1540م) ورمـَّم القلعة، كما أقام كثيراً من المنشآت المعمارية في القدس كالمساجد والمدارس والتكايا والسُبُل هذا بالإضافة إلى عمارة قبة الصخرة وأعاد تبليطها وعمَّر جدران الحرم وأبوابه، وجدَّد القاشاني في قبة السلسلة.
ويمكن القول إن مدينة القدس لقيت في عهده من الاهتمام الذي لم تلقه في عهد خلفائه سليم الثاني ومراد الثالث ومحمد الثالث وأحمد الأول ومصطفى الأول وعثمان الثاني حيث لم يرد ذكر القدس إبان فترة حكم هؤلاء الخلفاء التي امتدت من عام 1566 حتى عام 1622 وكانت القدس يومها تابعة لولاية مصر.
وعندما تولى السلطان مراد الرابع عام 1622 الأمر نجد القدس تعود إلى مسرح الأحداث فنجد السلطان يحظر على الناس في القدس شرب القهوة وتدخين التبغ، وأمر بإقامة القلعة التي سميت باسمه «قلعة مراد» عند برك سليمان وأنشأ في داخلها مسجداً وخمسين منزلاً لسكنى الجند.
جاء بعد السلطان مراد الرابع إبراهيم بن أحمد الأول (1639) ثم تولاها ابنه السلطان محمد الرابع (1648) وفي عهد الأخير بنيت مئذنة القلعة (1655) وأقيم المصلى الواقع بجانب سبيل شعلان في الحرم القدسي الشريف (1651)، إن أحسن وصف لمدينة القدس في ذلك العهد، أي حوالي عام 1670م نجده عند الرحالة التركي الشهير (أوليا جلبي) الذي زار المدينة عام 1670م.
حيث وصفها وصفاً جيداً فمدح خبزها وثمارها وخضرها وذكر أنها اشتهرت بمسكها وعطرها وبخورها ومباخرها النحاسية وأنَّ فيها ألفين وخمسة وأربعين دكاناً ومحتسباً وأسواقا وثلاثة وأربعين ألف كرم، كما رأى في وسط هذه الكروم زهاء ألف وخمسمائة قنطرة. أما عدد سكانها فيقول إنهم كانوا ستة وأربعين ألف نسمة أكثرهم من العرب المسلمين.
وكان فيها كنيسة للأرمن وثلاث أخرى للروم وكنيسان لليهود ومئتان وأربعون محراباً للصلاة وسبع دور للحديث وعشر دور للقرآن وأربعون مدرسة للبنين وستة حمامات وثمانية عشر سبيلاً للماء وتكايا لسبعين طريقة منها الكيلانية والبدوية والسعدية والرفاعية والمولوية. وعلى الرغم من هذا الرخاء الذي وصفه (أولياجلبي) إلا أنَّ الأمن كان مفقوداً سيما خارج أسوار المدينة التي كانت تابعة لطرابلس الشام آنذاك.
وفي عام (1824) قامت في القدس اضطرابات أعقبتها فتنة وذلك بسبب الضرائب الباهظة التي فرضها مصطفى باشا والي الشام على أهلها وعجز الوالي والمتسلم عن قمع الفتنة فجَّرد عليهم الوالي مصطفى باشا حملة قوامها خمسة آلاف رجل وعندما وصل إلى القدس لم يخرج أهلها لاستقباله ولم يدفعوا ما ترتب عليهم من ضرائب، فغضب الباشا وأصدر أوامره إلى الجند بمصادرة أموال الأهالي وتخريب المزارع والأملاك.
وما كاد الباشا يرحل عن المدينة حتى عاد الناس إلى التمرد، وأخذوا القلعة واستولوا على الأسلحة وأسروا الجند وأخذوا يضيِّقون على بعض السكان، ونصّبوا اثنين من زعمائهم ليديرا المدينة خوفاً من شيوع الفوضى هما: يوسف عرب الجبجاب وأحمد آغا الدزوار.
وعندما علم السلطان العثماني بهذا الوضع أصدر أوامره بإخضاع الفتنة.
ومن أجل ذلك أمر عبد الله باشا (1826م) والي صيدا بأن يسير إلى القدس لإخمادها وبالفعل تمكن عبد الله باشا من المدينة بعد قتال مرير استسلم المتمردون على أثره عام 1827م بعد أن قبلت شروطهم وهي إلغاء الضرائب وإعلان العفو العام.
بعد ذلك بأعوام قليلة تمكن إبراهيم باشا المصري عام 1831م من دخول القدس وسائر فلسطين وبهذا تبعت القدس القاهرة وفق معاهدة كوتاهية عام 1831 إلا أنَّ القدس عادت إلى التمرد من جديد في عام 1834 ضد إبراهيم باشا عندما طلب الأخير جمع السلاح من الأهالي وعندما فرض التجنيد الإجباري فانعدم النظام وسادت الفوضى وسيطر المتمردون على المدينة وحدث كرٌّ وفرٌّ إلا أن الأمر حسم في موقعة فحماس لصالح الجيش المصري ودخل إبراهيم باشا القدس ولم يكن في استقباله إلا اليهود والنصارى.
ولم يستسلم أهالي القدس إلا مؤقتاً بسبب الإرهاب الذي مارسه إبراهيم باشا ضدهم، فهي أي الفتنة وإن خبت إلى حين إلا أنها عادت فاشتعلت وفي كل مكان في القدس وفي سائر المناطق الفلسطينية وظلَّت مشتعلة حتى انسحب الجند المصريون عام 1841 عائدين إلى مصر بعد حكم دام عشرة أعوام وعلى الرغم مما ألمحنا إليه سابقاً من اضطرابات وفتن.
فقد شهدت القدس خلالها قيام عدد من المباني العامة كطاحونة الهواء الكائنة غرب القدس وهي أول طاحونة طحن أهل القدس قمحهم فيها.
وبنيت الزاوية الإبراهيمية الكائنة إلى الشمال من ضريح النبي داوود عليه السلام على جبل صهيون.
وبنيت قلعة وادي الجوز.
كما أقيمت سلسلة من القلاع لحراسة الطريق بين يافا والقدس.
كما كافح الرشوة واهتم بطرق المواصلات وأتاح للتجار الأجانب البيع والشراء.
وألغى الضريبة التي كان يأخذها حراس الكنيسة.
وأمر بإلغاء الخمس من الحاصلات الزراعية ووزع البذار على الفلاحين وشجَّع الناس على غرس الأشجار المثمرة وأدخل أنواعاً جديدة من الزراعة ووطَّن البدو.
بعد عودة القدس إلى حظيرة الدولة العثمانية شعر أهل القدس بالراحة والاطمئنان وكان عددهم في ذلك الحين عشرين ألفاً منهم ألف من المسيحيين.
واهتم السلطان العثماني بالحرم القدسي واتفق على عمارته حوالي عشرين ألف ليرة تركية في ذلك الزمان أي حوالي عام 1860م.
ويبدو أنَّ الدافع لذلك هو حرب القرم التي قامت بسبب النزاع حول الأماكن المقدسة.
كانت نتيجة تلك الحرب النصر لتركيا فابتهجت القدس بذلك النصر، الذي كان بمساعدة الإنجليز والإفرنسيين الذين أخذوا يتسابقون في جني ثمار ذلك النصر لصالحهم.
جعلت القدس متصرفية مستقلة عام 1871، ورصفت شوارعها القديمة وأسواقها بالبلاط (1863) وفي هذه الفترة عرف أهل القدس الطربوش ولبسوه.
التسميات
القدس أورشليم