الصوفية بالقدس في عهد المماليك.. المدرسة التنكزية للأمير تنكز الناصري. المدرسة الأشرفية للسلطان قاتيباي. الزاوية الوفائية. البسطامية. الطريقة القادرية

استمر الاهتمام بالصوفية في عهد المماليك، والتسابق في العناية بها، فساهم رجال الدولة وسواهم ببناء المساجد والتكايا والمدارس، وقدموا المساعدة للعلماء، والصوفية الذين تكاثر وجودهم في القدس، بعد سقوط بغداد بقبضة المغول، ومجيء مثيلهم من المغرب والأندلس، فبلغ عدد المدارس التي أشادوها إلى أربعين.
وقد أقام الأمير تنكز الناصري (ت 1340م) أهم مدارس العهد المملوكي "المدرسة التنكزية"، التي بُنيت بباب السلسلة، فغدت أهم مدارس القدس وبلاد الشام، حيث أصبحت معهداً علمياً ضم في جوانبه خانقاه، ودار حديث، ودار قرآن، وتولى التدريس فيها شيوخ أجلاء، ولم يقتصر تدريسها على الفقه، فقد احتوت على خانقاه لاثني عشر متصوفاً، ومدرسة أيتام، فكانت الدراسة، والصلوات الصوفية الروحانية، وأعمال البر، تمارس جنباً إلى جنب تحت سقف واحد، وقد حرص المشرف على البناء أن يقيم خانقاه الصوفية أعلى الرواق الجديد للحرم القدسي، على الحدود الغربية للحرم، كي يتمكن الصوفيون تأمل قبة الصخرة عن قرب، وهي التي تمثل نموذج مسعاهم في ممارستهم لرؤياهم الروحية.
كما قام السلطان قاتيباي عام 1472م، ببناء المدرسة "الأشرفية" في القدس، ملتصقة بالحرم الشريف، ببهو متجه، بل ممتد داخل الحرم، يعكس توقاً عظيماً نحو الصخرة الشريفة، وكانت هذه المدرسة تعكس التكامل بوظائفها التعليمية المتعددة الأغراض، وضمت في كنفها المذاهب الإسلامية الأربعة، وإلى جانبهم الصوفية، إذ رتب السلطان للصوفية، الذي بلغ عددهم الستين، خمسة عشر درهماً شامياً، وخصص للمدرسين والطلبة الآخرين رواتب لإعالتهم، وتولى الشيخ شهاب الدين أبو العباس بن حامد (ت 1450م) مشيخة "الخانقاه الفخرية" ذات الحجم الكبير، وكان لـه مريدون كُثر، وافتُتحت الزاوية الوفائية عام 1300م، من قبل الشيخ أبو الوفاء محمد، الذي أسست سلالته طائفة صوفية انتسبت إليه.
كما عرفت القدس زاويتين تحملان اسم "البسطامية"، الأولى عند أسفل صحن الصخرة، يجتمع فيها أصحابها لذكر الله تعالى، والثانية يعود وقفها للشيخ عبد الله البسطامي، وشُيدت قبل عام 1387م، ولقد كان أول شيوخها الإمام الزاهد مرشد السالكين، الشيخ علي الصفي البسطامي (ت 761ه‍)، كما كان هناك أيضاً زاوية القرمي، التي سميت على اسم الشيخ محمد القرمي (ت 1320م)، الذي أتى من دمشق إلى القدس، وقاد الطريقة "القرمية"، وقضى في القدس بقية عمره، وجذبت القدس الصوفي الكبير تقي الدين أبا الصدق الحلبي الطولوني (ت 843ه‍)، الذي أسس الطرق الطولونية في القدس، التي بقي فيها حتى نهاية حياته، كما أتاها الصوفي الشيخ شهاب الدين الرملي المقدسي الشافعي (ت 844ه‍)، وكان صاحب كرامات، ترك الإفتاء وأقبل على العبادة في الزاوية الختنية، جانب المسجد الأقصى، وأتاها الشيخ محمد فولاد بن عبد الله (ت 844ه‍)، وانقطع للعبادة في المسجد الأقصى، وحج ستين حجة، وحكي عنه كرامات، ومكاشفات، وله هيبة زائدة على الصوفية في خانقاه الصلاحية حيث كان يعمل بواباً فيه، ودفن في القدس وقضى الشيخ الصوفي شمس الدين محمد بن عيسى البسطامي الشافعي (ت 875ه‍) بقية حياته في القدس، وكان من فقراء البسطامية الصوفية، ودفن في القدس، وكذلك الصوفي شمس الدين محمد بن حسين المقري (ت 876ه‍)، بقي في القدس حتى نهاية حياته، وقدم إليها من الموصل الشيخ أبو بكر بن علي الشيباني الموصلي (ت 797ه‍) وكان من أعلام الصوفية، ومن كبار الأولياء، والذي بقي في القدس حتى وفاته، واتخذ الطريقة القادرية (نسبة إلى عبد القادر الكيلاني) مركزاً لها في المشفى القديم، وربطت في تعاليمها بين الجهاد الروحاني والصلوات الباطنية، وبين التعاطف الإنساني العملي، بينما درَّبت البسطامية تابعيها على نظام يشبه اليوغا، للتركيز على التيارات الروحية الأعمق للرؤى، وركزت على دعوى عنوانها "صُلح الكل"، تستهدف تقريب أصحاب الديانات المختلفة، ويمكِّنهم من فهم بعضهم، والانتقال من الكراهية إلى التآخي.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال