الصراع الطبقي في شعر الصعاليك.. سوء توزيع الثروة في المجتمع بسبب بخل الأغنياء وعقوقهم للفقراء. مهاجمة أصحاب المواشي وأصحاب المزارع الخصبة وأصحاب النوق الحوامل

يتحدث الصّعاليك في وضوح عن طبقة الموسرين الذين يوجهون اليهم الطعنات، فهناك ثلاث طوائف يوضح تأبط شرا أنه كان يقصدها باغاراته: أصحاب المواشي، وأصحاب المزارع الخصبة، وأصحاب النوق الحوامل، يقول:
فيوماً على أهل المواشي وتارة -- لأهل ركيب ذي ثميل وسنبل

وكان الصعاليك يعبرون عن سوء توزيع الثروة في مجتمعهم ببخل الأغنياء وعقوقهم للفقراء، وكان مقياس الغنى في هذا المجتمع كثرة الابل، ولهذا نجد الأحيمر السعدي يصف فقره وتجرده من الابل، في الوقت الذي يملك غيره الكثير منها.
وقد كان ينبغي أن يجعل له نصيباً فيما يملك، يقول:
وإنّي  لاستحيي  لنفسي  أن أُرى -- أَمُرُّ بحبل ليس فيـه بعيـرُ
وان أسأل العبدَ اللئيــمَ بعيـرَه ُ-- وبُعرانُ ربّي في البلاد كثيرُ

ونجد عروة بن الورد يوضح لنا صوراً من الصراع الطبقي حين يتحدث عن اغاراته على أصحاب الابل الكثيرة البخلاء الذين لا يجعلون نصيباً للفقراء فيها، فيقول ساخطاً على تخمة الغني الذي يجلس دون أن يصنع شيئاً، بينما يهلك الفقير، يقول:
لعلّ انطلاقي في البلاد ورحلتي -- وشدّي حيازِيم المطيّة بالرّحل
سيدفعني يوماً إلى رَبّ هجمـهّ -- يدافع عنها بالعقوق وبالبخـل

وفي سبيل هذا الصراع الطبقي، ومن أجل إذكائه في نفوس الصعاليك، ضحيّة المجتمع الظالم، حاول أحرارهم أن يجعلوا من هذا الصراع ثورة عنيفة تطيح بالمجتمع، فأخذوا يهاجمون إخوانهم الذين استكانوا لحياة الذلّ، ورضوا بأغلال العبودية، وعاشوا في دعة وخمول خلف أدبار البيوت قانعين بظلم المجتمع لهم.

ويرسم عروة لهذه الطائفة صورة ساخرة في قوله:
لحا  الله  صعلوكا إذا جنّ ليلُهُ -- مصافي المُشاشِ آلفا كلَّ مَجزرِ
يعد الغني من دهره كـل ليلةٍ -- أصاب قِراها من صديق ميسّـرِ
ينام عشاءً ثم يصبـح ناعسـاً -- يَحتّ الحصى عن جنبه  المتعفّر
يعين نساء الحيّ ما يستعـنّـه -- فيمسي طليحاً كالبعـير المحسّر

وفي الوقت نفسه يرسم لنا عروة المثل الأعلى للصعلوك الثائر على مجتمعه، الذي لا يرضخ للظلم، ولا يستكين للذلّ، ولكنه يحب الصراع، ويُقبل عليه، فيقول:
ولكن صعلوكاً صفيحةُ وجهه -- كضَوْءِ شِهابِ القابس المتنورِ
مطلاّ على أعدائه  يزجرونه -- بساحتهم زَجْرَ المنيح المشهّرِ
إذا بعُدوا لا يأمنون اقترابـَهُ -- تشوّف أهلِ الغائبِ المتنظـرّ
فذلك انْ يلق المنيةَ يَـلْقَهـا -- حميداً وإِنْ يستغنِ يوماً فأجدر

ما أبعد الفارق بين الصورتين: صورة الصعلوك الخامل الذي يتهافت على فضلات الطعام، ولا يدع حتى المشاش، واذا نال هذا الصعلوك برّا من صديق غني عدّ ذلك غاية الغايات، وبات سعيداً بتفضل الناس عليه، وهو لتفاهته وخمول نفسه ينام عشاءً، فاذا أصبح الصباح لم يخفّ من نومه نشيطاّ، بل ظلّ على خموله، برغم نومه الطويل، لاهمّ له إلاّ أن ينفض ما علق على جنبه من الحصى، كما يفعل البهيم.

وهذا الصعلوك الساقط الهمة لا يأنف من قضاء ما تكلّفه به نساء الحيّ المترفات، فهو في خدمتهن دائماً، ويظل يبذل جهده في هذه الأعمال الوضيعة التي لا تليق برجل مكافح حتى إذا أمسى الليل نام كالحيوان إعياء.

أما الصورة الأخرى: صورة الصعلوك الجدير بالصعلكة في رأي عروة فهو الفاتك الشجاع الذي يضيء وجهه كالشهاب لقوة عزمه وتصميمه، وبسبب حيويته وتوثبه، وهو إذا هجم على أعدائه حاولوا الفرار من وجهه، خوفاً من فتكه، فإذا ابتعدوا عن طريقه ظلّوا على خوفهم منه، حتى أنهم ينظرون في فزعٍ حولهم، يتوقعون مجيئه في أي وقت.

وبسبب هذا الصراع الطبقي أيضاً استهان الصعاليك بحياتهم وتغنّوا بالبطولة والشجاعة، وكان شعارهم الموت ولا حياة العبودية، والهلاك ولا التغاضي عن ظلم المجتمع لهم. وفي هذه المعاني كثرت أشعارهم، حتى لنجد أنفسنا أمام أبطال، تقترب مغامراتهم من الخيال، وتكاد تصبح من الأساطير والخرافات.

ويصف لنا تأبط شرا حياة الصعلوك الفاتك الثائر على مجتمعه، فيقول:
قليـلُ  التشكي للملـمّ يصيبــه كثيرُ -- الهوى شتّى النّوى والمسالـكِ
يظل  بموماة  ويمسـي بغيرهـا وحيداً -- ويَعْروري ظهـور المهــالكِ
ويسبق وفدّ الريّح من حيث  تنتحي -- بمُنخرقٍ مـن شـــدّة المتــداركِ
إذا حاصَ عينيه كرى النوم لم يزل -- له كالىءٌ من قلْــب شيحــانَ فاتـكِ
ويجعـلُ عينـيه ربيئـةَ قـلبـه إلى -- سلّة مـن حــدّ أخلــقَ بـاتـكِ
يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي -- بحيث اهتدت أم النجـوم الشـوابـك

وهذا الصعلوك الذي لا يشكو ما ينزل به من الخطوب- على عظمها- لقوة احتماله وصبره، والذي ينطلق في الصحاري مستأنساً بنفسه، ويقتحم المخاطر والمهالك، والذي يسبق الريح بعدْوه السريع المتلاحق والذي لا يكاد النوم يزور جفنيه، فإن زاره فلم ينم قلبه الشجاع الحازم.

فإذا كره القلب شيئاً كانت العين صاحبه الذي يشير عليه، فيستلّ سيفه، وعندئذ تفرح المنايا لأنها تعلم أن استلاله للسيف سوف يعقبه ضحايا.

والصعلوك لا يضل في قصده أبداً، فهو في وَحْدته في الصحراء المخوفة يعرف طريقه جيّداً، ويهتدي إلى غايته، كما تهتدي النجوم في سيرها.

وهذه الحياة العنيفة المجهدة تهون على صاحبها حين يمسي في موضع المخاطرة والإقدام، ويذكر تأبط شرا ذلك المعنى حين يكمل رسم صورة الصعلوك في قصيدة أخرى، فيقول:
قليل غرار النوم أكبر همّه دم -- الثـأر أو يـلقى كميّـا  مقنعا
قليل ادّخار الـزّاد الاّ تعلّةً وقد -- نشز الشرّسوفُ والتّصق المعا

فالصعلوك الذي يأنس بالوحشة في الصحراء المخوفة، والذي ينام يقظان يحلم بالمعارك والقتال، ولا يفكر في ادّخار الزّاد، بل يتحمل الجوع والهزال في صبر عجيب، وفي مكان موحش مقفر، لا يجد فيه الاّ الوحش يألفه ويأنس به، هذا الصعلوك يعلم أن الموت حقّ، ولكنه لا يقصد الموت الهيّن، بل الموت في أثناء الصراع والقتال، فتلك نهاية جديرة بالصعلوك الثائر.

وفي معنى الإقدام والمخاطرة بالنفس والاستهانة بالحياة، الذي يرجع في الأصل إلى ثورة الصعاليك على مجتمعهم، والاستهانة بقيمه الظالمة، يقول عمرو بن براقّة:
أَلَمْ تعلمي أنّ الصّعاليكَ نومُهــمْ -- قـليلٌ إذا نـام الدثـورُ المسالمُ
إذا  الليلُ  أدْجى واكفهرتْ نجومُه -- وصاحَ من الإفراطِ هامٌ جـواثمُ
ومال بأصحاب الكرى غالباتــُهُ -- فإني على أمر الغَوايـة حـازمُ
متى تجمع القلب َ الذكيّ  وصارماً -- وأنْفاً حَمِيّا تجتنْـبكَ المظــالمُ
متى تطلبِ المالَ الممُنّعَ بالـقـنا -- تعشْ ماجداً أو تخترمْكَ المخارمُ

وقد أعطى الشاعر لحماسته موضوعاً اجتماعياً أخلاقياً، ما زال من أهم موضوعات الحضارة الإنسانية، وهو البحث عن الحق، أيكون بالقوة أم بالمسالمة.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال