الحالة النفسية عند دريد وهو يتحدث عن زوجه التي فارقها- حزينة بائسة، كيف لا وقد انفصل عن زوجه التي قضى معها زمنا طويلاَ، فدريد يصرخ من أعماق قلبه بأنه قد خسر تلك الزوجة.
ثم ينتقل الشاعر ليتحدث عن الخسائر الأخرى التي مُني بها في حياته، فماذا خسر؟
خسارة الرأي:
انتقل دريد لشرح الظروف العامة التي فقد فيها أخاه، وكان دريد وأخوه وصحبه قد أغاروا على غطفان، وأصابوا منها إبلاً كثيرة، ثم رجعوا، فلمّا كانوا ببعض الطريق، نزل أخوه عبد الله ليريح وليستريح، ويقسّم الإبل بين أصحابه، فنهاهم دريد عن ذلك، وطلب إليهم علانية ألاّ ينزلوا، فلم يطيعوه، فأذعن لهواهم، وهو يعلم أنهم على ضلالة...
وسرعان ما لحقتْ بهم جموع غطفان، يتقدّمها الأشرافُ الذين يلبسون الدروع الفارسية... وقال بصوتِ خزين: إنّ قومه- وأخوه واحد منهم- لم يتبيّنوا فضل مشورته إلاّ بعد فوات الأوان:
أعاذلَ إنّ الرزءَ في مثل خالـد
ولا رزء فيما أهلك المرء عن يدِ
وقلتُ لعرّاضِ وأصحاب عارض
ورهطِ بني السّوداء والقومُ شُهّدي
علانيـةً: ظُنّـوا بألفيْ مدجـّج
سراتهمُ فـي الفـارسيّ المسرّدِ
أمرتهم أمري بمنعـرج اللّـوى
فلم يستبينوا الرّشد الاّ ضحى الغدِ
فلما عصوْني كنتُ منهم وقد أرى
غَوايتهـم وأنّني غير مهتدِ
وما أنا الاّ من غزية إنْ غوتْ
غويْتُ وإنْ ترشُدْ غزيّةُ أرشُدِ
وإن تعقبِ الأيامُ والدّهر تعلموا
بني قاربٍ أنّا غضابٌ بمعبد
خسارة الأخ:
ثم انتقل إلى المحور الثالث في القصيدة، تأبين أخيه الذي خرّ صريعاً في تلك الموقعة، ونراه ينطلق في تأبينه من قيم الفروسية التي كان يتحلّى بها أخوه، فقد كان جريئاَ مقداماً، لا يخطئ الرّماية، كريماً حين الجدب، يألف احتمال الشّدائد، صبوراً عليها، قائداً في المعارك، ربيئة جيشه، ينظر للقوم لئلا يداهمهم العدو، يتوقّى فيما يتصرّف به كي لا تناله أحاديث السوء فيما بعد:
وإن يَكُ عبد الله خلّى مكانـه
فما كان وقـافاً ولاطـائش اليـدِ
ولا بَرَماً إذا الرّياح تناوحـتْ
برطبِ العضاهِ والضّريع المعضّدِ
رئيـسُ حروب لا يزال ربيئةً
مشيحاً على محقوقف الصّلْب مُلْبدِ
صبورٌ على رزء المصائبِ حافظٌ
من اليوم أدبـار الأحاديثِ في غدِ
صَبا ما صَبا حتّى علا الشّيْبُ رأسَه
فلمّـا علاه قال للباطلِ ابْـعُــدِ
وممّا خفّف وقع المأساة على دريد أن علاقته بأخيه كانت علاقة حميمة، فقد كان يودّ أخاه، ويجلّه، ولا يضنّ عليه بمال. وانّ دريداً بذل أقصى ما يستطيع في الدفاع عن أخيه، ولم يتركه دون أنْ يدافع عنه دفاع الأبطال:
وَهَوَّنَ وَجْدي أنّني لم أقُلْ له -- كذبْتَ ولم أبخَلْ بما ملكتْ يدي
فطاعنتُ عنه الخيلَ حتّى تبدّدتْ -- وحتى علاني حالكُ اللّون أسودُ
طعانَامرئ آسى أخاه بنفسه -- وأعلم أنّ المرء غير مخلّد
ويتعزّى بالحكمة ليخفف من وقع الفجيعة على نفسه، وأنّه لن يخلّدَ بعده، بل سيموت في يومه، أوغده، وليس أحد بقادر على الإفلاتِ من الموت:
وهوّن وَجْدي أَنّما هو فارطُ
أمامـي وأنّي واردُ اليومِ أوغدِ
ويُنهي قصيدته بالحديث عن قوته وشدّة بأسه، وفرسه القوي، كي يكون لتهديده غطفان أَثر في نفوسهم:
وغارةِ بَيْنَ اليومِ واللّيلِ فلتةٍ
تداركتُها ركضاً بسيدٍ عمّـردِ
هذه القصيدة متكاملة البناء، مترابطة الأعضاء، يؤدي كلُّ منها إلى الذي يتلوه، ويشاركه في الوظيفة الكلية للقصيدة ذات الدفع الواحد والمغزى الواحد. انتقل الشاعر فيها من الحديث عن مفارقة زوجه، وخسارته لها، إلى الحديث عن خسارة الرأي، ومن ثَمَّ تحدث عمّن فَقَدَ، معدّداً صفاته التي من أجلها كانت الخسارة عظيمة، ثم انتقل إلى الحديث عن علاقته بأخيه، وكيف دافع عنه، ثم تعزّى بالحكمة ليخفف من وقع المأساة على قلبه، وأنهى قصيدته بتمجيد القوة، ليكون لتهديده غطفان وقع على نفوسهم.
مرثية دريد بن الصمة كاملة:
أَرَثَّ جَديدُ الحَبلِ مِن أُمِّ مَعبَدٍ
بِعاقِبَةٍ وَأَخلَفَت كُلَّ مَوعِدِ
وَبانَت وَلَم أَحمَد إِلَيكَ نَوالَها
وَلَم تَرجُ فينا رِدَّةَ اليَومِ أَو غَدِ
مِنَ الخَفِراتِ لا سَقوطاً خِمارُها
إِذا بَرَزَت وَلا خَروجَ المُقَيَّدِ
وَكُلَّ تَباريحِ المُحِبِّ لَقيتَهُ
سِوى أَنَّني لَم أَلقَ حَتفي بِمَرصَدِ
وَأَنِّيَ لَم أَهلِك خُفاتاً وَلَم أَمُت
خُفاتاً وَكُلّاً ظَنَّهُ بِيَ عُوَّدي
كَأَنَّ حُمولَ الحَيِّ إِذ تَلَعَ الضُحى
بِنا صِفَةِ الشَجناءِ عُصبَةُ مِذوَدِ
أَوِ الأَثأَبُ العُمُّ المُخَرَّمُ سوقُهُ
بِشابَةَ لَم يُخبَط وَلَم يَتَعَضَّدِ
أَعاذِلَ مَهلاً بَعضُ لَومِكِ وَاِقصِدي
وَإِن كانَ عِلمُ الغَيبِ عِندَكِ فَاِرشِدي
أَعاذِلَتي كُلُّ اِمرِئٍ وَاِبنُ أُمِّهِ
مَتاعٌ كَزادِ الراكِبِ المُتَزَوِّدِ
أَعاذِلَ إِنَّ الرُزءَ في مِثلِ خالِدٍ
وَلا رُزءَ فيما أَهلَكَ المَرءُ عَن يَدِ
وَقُلتُ لِعارِضٍ وَأَصحابِ عارِضٍ
وَرَهطِ بَني السَوداءِ وَالقَومُ شُهَّدي
عَلانِيَةً ظُنّوا بِأَلفَي مُدَجَّجٍ
سَراتُهُمُ في الفارِسيِّ المُسَرَّدِ
وَقُلتُ لَهُم إِنَّ الأَحاليفَ أَصبَحَت
مُطَنِّبَةً بَينَ السِتارِ فَثَهمَدِ
فَما فَتِئوا حَتّى رَأَوها مُغيرَةً
كَرِجلِ الدِبى في كُلِّ رَبعٍ وَفَدفَدِ
وَلَمّا رَأَيتُ الخَيلَ قُبلاً كَأَنَّها
جَرادٌ يُباري وِجهَةَ الريحِ مُغتَدي
أَمَرتُهُمُ أَمري بِمُنعَرَجِ اللِوى
فَلَم يَستَبينوا النُصحَ إِلّا ضُحى الغَدِ
فَلَمّا عَسوني كُنتُ مِنهُم وَقَد أَرى
غِوايَتَهُم وَأَنَّني غَيرُ مُهتَدي
وَهَل أَنا إِلّا مِن غَزِيَّةَ إِن غَوَت
غَوَيتُ وَإِن تَرشُد غَزيَّةُ أَرشَدِ
دَعاني أَخي وَالخَيلُ بَيني وَبَينَهُ
فَلَمّا دَعاني لَم يَجِدني بِقُعدَدِ
أَخي أَرضَعَتني أُمُّهُ بِلِبانِها
بِثَديِ صَفاءٍ بَينَنا لَم يُجَدَّدِ
فَجِئتُ إِلَيهِ وَالرِماحُ تَنوشُهُ
كَوَقعِ الصَياصي في النَسيجِ المُمَدَّدِ
وَكُنتُ كَذاتِ البَوِّ ريعَت فَأَقبَلَت
إِلى جَلَدٍ مِن مَسكِ سَقبِ مُقَدَّدِ
فَطاعَنتُ عَنهُ الخَيلَ حَتّى تَنَهنَهَت
وَحَتّى عَلاني حَلِكُ اللَونِ أَسوَدِ
فَما رِمتُ حَتّى خَرَّقَتني رِماحُهُم
وَغودِرتُ أَكبو في القَنا المُتَقَصِّدِ
قِتالُ اِمرِئٍ آسى أَخاهُ بِنَفسِهِ
وَيَعلَمُ أَنَّ المَرءَ غَيرَ مُخَلَّدِ
تَنادوا فَقالوا أَردَتِ الخَيلُ فارِساً
فَقُلتُ أَعَبدُ اللَهِ ذَلِكُمُ الرَدي
فَإِن يَكُ عَبدُ اللَهِ خَلّى مَكانَهُ
فَما كانَ وَقّافاً وَلا طائِشَ اليَدِ
وَلا بَرِماً إِذا الرِياحُ تَناوَحَت
بِرَطبِ العِضاهِ وَالهَشيمِ المُعَضَّدِ
وَتُخرِجُ مِنهُ صَرَّةُ القَومِ جُرأَةً
وَطولُ السُرى ذَرِّيَّ عَضبٍ مُهَنَّدِ
كَميشُ الإِزارِ خارِجٌ نِصفُ ساقِهِ
صَبورٌ عَلى العَزاءِ طَلّاعُ أَنجُدِ
قَليلٌ تَشَكّيهِ المُصيباتِ حافِظٌ
مِنَ اليَومِ أَعقابَ الأَحاديثِ في غَدِ
صَبا ما صَبا حَتّى عَلا الشَيبُ رَأسَهُ
فَلَمّا عَلاهُ قالَ لِلباطِلِ اِبعَدِ
تَراهُ خَميصَ البَطنِ وَالزادُ حاضِرٌ
عَتيدٌ وَيَغدو في القَميصِ المُقَدَّدِ
وَإِن مَسَّهُ الإِقواءُ وَالجَهدُ زادَهُ
سَماحاً وَإِتلافاً لِما كانَ في اليَدِ
إِذا هَبَطَ الأَرضَ الفَضاءَ تَزَيَّنَت
لِرُؤيَتِهِ كَالمَأتَمِ المُتَبَدِّدِ
فَلا يُبعِدَنكَ اللَهُ حَيّاً وَمَيِّتاً
وَمَن يَعلُهُ رُكنٌ مِنَ الأَرضِ يَبعُدِ
رَئيسُ حُروبٍ لا يَزالُ رَبيئَةً
مُشيحاً عَلى مُحقَوقِفِ الصُلبِ مُلبِدِ
وَغارَةٍ بَينَ اليَومِ وَالأَمسِ فَلتَةٍ
تَدارَكتُها رَكضاً بِسِيدٍ عَمَرَّدِ
سَليمِ الشَظى عَبلِ الشَوى شَنِجِ النَسا
طَويلِ القَرا نَهدٍ أَسيلِ المُقَلَّدِ
يَفوتُ طَويلَ القَومِ عَقدُ عِذارِهِ
مُنيفٌ كَجِذعِ النَخلَةِ المُتَجَرِّدِ
فَكُنتُ كَأَنّي واثِقٌ بِمُصَدَّرٍ
يُمَشّي بِأَكنافِ الحُبَيبِ بِمَشهَدِ
لَهُ كُلُّ مَن يَلقى مِنَ الناسِ واحِداً
وَإِن يَلقَ مَثنى القَومِ يَفرَح وَيَزدَدِ
وَهَوَّنَ وَجدي أَنَّني لَم أَقُل لَهُ
كَذَبتَ وَلَم أَبخُل بِما مَلَكَت يَدي
فَإِن تُعقِبِ الأَيّامُ وَالدَهرُ تَعلَموا
بَني قارِبٍ أَنّا غِضابٌ بِمَعبَدِ
التسميات
شعر جاهلي