الوَحدةُ النفسيّةُ في داليّة الأسود بن يعفرَ النهشليّ.. الموت نهاية حتمية للإنسان. الانهيار النفسي والتمزق الوجداني بعد الابتلاء بالعمى

داليّة الأسود بن يعفرَ النهشليّ:
نام الخليُّ وما أحسُّ رقادي -- والهمُّ محتضر لديّ وسادي

عدّها ابن سلاّم من روائع الشعر، ولو كان الأسود شفعها بمثلها لقدّمه ابن سلام على مرتبته. وبلغت هذه القصيدة من الأهميّة أن هارون الرشيد قد أمر بعشرة آلاف درهم لمن ينشد هذه القصيدة، ورفض القاضي سوّار شهادة رجل دارميّ- من قوم الشاعر-لأنه لم يكن يحفظ هذه القصيدة.

افتتح الأسودُ قصيدته بذكر الهموم المؤرقة، بعد أن أدركته الشيخوخة، فغدا فريسةً للأرق والسّهاد، فنام كلّ خليّ من الهمّ، أمّا هو فلم يذق للنوم طعماً، بسبب همومه وأحزانه، التي كان يئنّ من كثرتها، وأدّت إلى انهياره النفسي، وتمزّقه الوجداني، بعدما ابتلي بالعمى، ولم يعد قادراً على التنقل بين الأماكن التي كان له فيها جولات وصولات، إِذ كان فارس تميم في حروبها، فقال:
نام  الخليّ وما أُحسُّ  رُقـادي -- والهـمّ محتضـرٌ لــديّ وســادي
منْ  غير ما سقم ولكن شّفني -- هـمٌّ أراه قـد أصــاب فــؤادي
ومن الحوادث لا أبا لكِ أَنّـني -- ضُربتْ علـيّ الأرضُ بالأســدادِ
لا أهتدي فيها لموضع تلعـةٍ -- بين  العــراق وبين أرض مُــرادِ

وفي ذِروة التأزّم النّفسي والمعاناة، انتقل إلى الحديث عن حتمية الموت، فبدا مؤمناً بأنّ الموت نهاية حتمية للإنسان، وانّ الناس صائرون إليه، غنيُّهم وفقيرُهم، عزيزُهم وذليلُهم، قويُّهم وضعيفُهم، فليس الغنيُّ قادراً على الإفلات منه بماله، ولا القوي قادراً على الهرب منه:
ولقدْ علمتُ سوى الذي  نبّأتِني -- أنّ السبيـلَ سبيـلُ ذي الأعوادِ
إنّ المنيّةَ والحتوفَ كـلاهمـا -- يـوفي المخارمَ يرقبان سـوادي
لن يرضيا منّي وفاء رهينــةٍ -- من دون نفسي طارفي وتلادي

وأنت ترى أن هذه الفكرةَ قد تولّدتْ عن سابقتها تولّداً طبيعيّاً، وبدتْ في الموضع الذي يجب أن تكون فيه، وأضافت إلى هذا العمل الفني شيئاً جديداً.

ولكي يخفّف الأسود من وقع المأساة على نفسه، نراه يتعزّى بالأمم السّابقة، ويعظ غيره بمن سبقه من الملوك العظام، الذين شهد التاريخ صولاتهم وجولاتهم، فاتعظ بآل محرّق (المناذرة) وبأياد الذين كانوا نموذجاً للعزّ والثراء، والجاه والجود، وبآل غَرْف الذين كانوا رمزاً للقوّة، فما أغنتْ هؤلاءِ قوّتُهم، ولا أغنى أولئك جاههم، وصاروا جميعاً إلى بلى ونفاد:
ماذا أؤمّل بعد آل محرّق -- تركوا منـازلَهـم وبعـد إيـادِ
أهلِ الخورنقِ والسّدير وبارق -- والقصير ذي الشّرفاتِ من سندادِ
أرضا تخيرها لدار أبيهم -- كعبُ بنُ مامة وابن أُمّ دُؤادِ
جرت الرّياح على مكان ديارهم -- فكأنّما كانوا على ميعادِ
ولقد غَنُوا فيها بأنعم عيشةٍ -- في ظلّ مُلْك ثابت الأوتادِ
نزلوا بأنقرة يسيلُ عليهمُ -- ماءُ الفراتِ يجيء من أطوادِ
أين الذين بنْوا فطالَ بناؤهم -- وتمتّعوا بالأهل والأولادِ
فإذا النعيمُ وكلُّ ما يُلهى به -- يوماً يصير إلى بلى ونفادِ
في آلِ غَرْف لو بغيْتِ ليَ الأُسى -- لوجدتِ فيهم أسوة العُدّادِ
ما بعد زيدٍ في فتاة فُرّقوا -- قتلاً وَنَفْياً بعد حسْن تآدي
فتخيّروا الأرضَ الفضاءَ لعزّهم -- ويزيـدُ رافدهـم علـى الرفّـادِ

فالعاطفة الحزينة ما زالت مسيطرة على الشاعر، بَيْد أننا سنلحظ ظهور عواطفَ جديدةٍ، في القصيدة، متفرعة عن العاطفة المركزية، التي كانت قوة دافعة للشاعر لنظم القصيدة.

وفي غمرة التردّي باليأس، لا بدّ للشّاعر من الارتداد إلى الماضي، والحديث عن تجاربه في الحياة، شأنه شأن أي إنسان يصبح ضعيفاً بعد قوة، وذليلاً بعد عزّ، وفقيراً بعد غنى. فيعود إلى الذاكرة، فتعيد إليه شريط الماضي مصوِّراً، فيصف مجالس الخمر التي كان يغشاها، ويركّز عدسته الفنيّة على ما كان يدور في تلك المجالس، حتى يشعر القارئ وكأن الشاعر يصف مجلساً يحضره للتوّ، ولم يرفع ريشته عن تلك اللوحة حتى نقلها بأدقّ التفاصيل، فإذا نحن أمام فتيات نواعم جميلات، يفتنّ الأفئدة، ويسبين القلوب، يطفْنَ على الندامى بالشراب، يتلألأن كأنّهن البدور والدُّمى، إشراقاً وقواماً، ينطقْن حديثهنّ تهامساً، فبلغن ما أردْنَ دونما تعب ولا مشقّة، فيشرب الندامى الخمر من أيديهن وأفواههن، فيسكرون، وينتشون  بخمر الأقداح، وحديث الأفواه:
إمّا  تريْني قد بليـتُ وغاضنـي ما نيل من بَصري ومن أجلادي
وعصيْتُ أصحابَ الصّبابةِ والصّبا -- وأطعتُ عاذلتي ولان قيـادي
فلقد أروح على التّجار مُرَجّلاً -- مَذِلاً بمالـي ليّنـا أجيـادي
ولقد لهوتُ وللشـباب لـذاذةٌ -- بسُلافةٍ مُزجتْ بماء غـوادي
من خمر ذي نَطَفٍ أغنَّ منطّـق -- وافى بها لدراهـمِ الأسجـادِ
يسعى بها ذو تومتيـن مشمّـرٌ -- قَنـأت أناملُـهُ مـن الفِرْصـادِ
والبيضُ تمشي كالبدور وكالدّمى -- ونواعـمٌ يمشيـن بالأرفــادِ
والبيضُ يَرمينَ القلوب كأنّهـا -- أدحيُّ بين صَريمةٍ وجَمــادِ
ينطقنْ معروفاً وهنّ  نواعــم -- بيضُ الوُجوهِ رقيقةُ الأكبـادِ
ينطقن مخفوضَ الحديثِ تهامساً -- فبلغنَ ما حاولْنَ غير تنـادي

ويزهو الشاعر بماضيه، ليتعوّض به عن حاضره، فتسيطر عليه من جديد عاطفة الاعجاب بالذّات، وهي امتداد لعاطفته السابقة، وقد أبرز الشاعر هذه العاطفة من خلال حديثه عن شجاعته وقوة بأسه، وعزته وصلابته، وحديثه عن مرعاه وفرسه، فتراه يتّجه إلى مرعى خصيب مؤنق، يتناذره الآخرون، وينأون عنه، خوفا من أن يصيبهم فيه أذى، أما الشاعر فيقصده للاصطياد آمناً مطمئناً....  ويتنقل بفرس قويّ سريع العَدو، قادر على طلب الوحوش، لا يستطيع أشدّها عدواً أن يفلت منه، لقدرته على الإحاطة بها، فكأنّه قيدٌ لها، فجعل عزّة فرسه من عزّته، وقوّته من قوّته.

ويتحدث عن ناقة تجسر على السّير، موثّقة الخَلق، لا تلقح، تشبه العير في صلابتها:
ولقد غــدوت لعــازبٍ  مُتَـنـاذَرٍ -- أحـوى المذانبِ مُؤْنقِ الرُوّادِ
جــــــادت سواريه وآزر نبـتُه -- نُفَأٌ مـــنَ الصّفراء والزُبـّادِ
بالــجوّ فالأمراتِ حــَوْلَ مُغامــرٍ -- فبضارحِ فـقميصــة الطُـرّادِ
بمٌشــَمّرِ عتدٍِ  جــَهيزٍ شَــــدُّهُ -- قَيْــدِ  الأوابد والرّهـانِ جَوادِ
يشوي  لنا  الوَحَـدَ  المـدِلّ بحضـره -- بشَرَيجِ  بَينَ  الشـدّ والايــرادِ
ولَقــــدْ تلوْتُ  الظّاعنين بجسـَرَةٍ -- أُجُــدٍ مَهاجرةِ السّقابِ جَمـادِ
عيرانةٍ ســـدّ الرّبيع خصاصهــا -- ما يستبينُ بهـا مقيـل قـرادِ
أحدث أقدم

نموذج الاتصال