وحدة الجو النفسي في القصيدة الجاهلية.. تعدد التجارب والعواطف وتكون جميعها متجانسة المغزى هادفة بتعدّدها إلى استجلاء وحدة في الوجود أو في موقف النفس البشرية منه

يحس بنا أَنْ نحدّد بُداءة المعنى المقصودَ بـ "وَحْدة القصيدة"، لأن هذا المصطلحَ ليس موضع اتفاق عند الباحثين، لذا جاءت أحكامهم على وحدة القصيدة الجاهلية متباينة، لأنهم يخلطون بين مصطلحات مختلفة، مما دفع محمداً النويهي إلى القول: إِنّ الكثيرين لا يفهمون المقصود، فيظنُون أنّ مدلولها -وحدة القصيدة- هو اقتصار القصيدة على تجربة واحدة، أو عاطفة واحدة، ولكن الوحدة المطلوبة لا تحجز الشاعر عن تعدّد التّجارب والعواطف في قصيدته، إنّما يشترط أن تكون جميعها متجانسة المغزى هادفة بتعدّدها إلى استجلاء وحدة في الوجود، أو في موقف النفس البشرية منه.

فمعنى وَحدة القصيدة "أن يكون بين موضوعاتها انسجام في العاطفة المسيطرة... والشاعر يحقّق هذه الوحدة في بنائه لقصيدته بأن يرتب موضوعاته ترتيباً يقوم على النموّ المطّرد، بحيث ينشأ أحدهما عن سابقه نشوءاً عضوياً مقنعاً، ويقود إلى لاحقه بنفس الطريقة، وبحيث تتكامل أجزاء القصيدة في توضيح عاطفتها المسيطرة، واتجاهها المركزي، حتى إذا قرأنا القصيدة ازددنا بالتدرج دخولاً في عاطفتها، وبصراً باتجاهها".

وقد لحظ هذا الرّبط، أيضاً، د. طه حسين،  في أثناء حديثه عن معلقة لبيد، وقال: "إِنّها بناء متقن مُحكَم، لا تستطيع أنْ تقدّم فيه وتؤخر، أو تضع بيتاً مكان بيت دون أن تفسد القصيدة، وتشوّه جمالها، ودون أن تفسد البناءَ كلّه وتنقضه نقضاً".

فوحدة القصيدة تتحقّق من خلال الجو النفسيّ العام، الذي يشدّ أجزاء القصيدة بعضها ببعض، وأنّ هذه الوَحدةَ "لا تتُبيّنُ بالقراءة المتعجلة والنظرة الخاطفة، فهي ظاهرة خفيّة يحتاج إدراكهُا واستيعابُها وشرحُها وتفسيرُها إلى دراسة متأنية للقصائد، ومعرفةٍ كافية بالأحوال المؤثرة فيها، والأهداف المتوخاة منها".

وقد أحسّ طه حسين هذه الوحدة في القصيدة الطويلة، وقال: إنّها وحدة متقنة متمّة إتماماً لا شكّ فيه ولا غبار عليه.
وقال: إن أجزاء القصيدة جاءت ملتئمة الأجزاء، قد نُسقّت أحسنَ تنسيق وأجمله وأشدّه ملاءمة للموسيقى، وعزا الخلل والتفكك والانقطاعَ في بعض القصائد إلى قصور ذاكرة الرّواة.

وقد أحسّ بهذا الرابط، أيضاً، المستشرق جوستاف جرينباوم، فقال:" إن هناك نوعاً من رابطة نفسيةٍ بين القفز الاستطرادي من موضوع إلى موضوع بين هذه الانتقالات العاجلة من حالٍ إلى حال، ومن انتباه إلى آخر".

والشاعر عند نظمه لقصيدة ما تراوده فكرتها الأساسية التي عاشت في مخيلته، وهو يعاني التجربة التي صدر عنها، فيتفاعل معها، ويهتز لها، ويتفتّق لسانه بها، فيرتلها لحناً شعرياً خالداً، متألقاً بالخيال، ليثير في المتلقّي ما ثار في نفسه ساعة نظمها.

وقد يفتتح القصيدة بلوحة الطلل، أو الغزل، أو الشيب، ثم ينفتح على لوحة الرحلة، ومنها ينفتح على لوحة الغرض.

والقصيدة الجاهلية بلوحاتها المختلفة- التي تحدثنا عنها- أشبه ما تكون بالعقد الذي يتألف من مجموعة من الجواهر الثمينة ذات الألوان المختلفة، التي ينتظمها خيط واحد، تُسلكُ فيه، وهذا الخيط الذي تُسلك فيه أجزاء القصيدة الجاهلية هو الخيط العاطفي الذي يشدّ تلك الأجزاء بعضها ببعض.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال