النص القرائي - الأغنية الأبدية - من أساطير الهنود الحمر، ترجمة راوية صادق، مجلة الكرمل

كان الليل وكان بلد الهنود يلتف بظلام شديد حالك، ورغم ذلك كانت مجموعة من الرجال تتقدم عبر الدرب الممتد على طول خليج (الثعابين) مختبئين تحت الأحراج الكثيفة، كانوا يتقدمون بخطوة الذئب، ويتجنبون وطء الأغصان الصغيرة، دون أن يهمسوا بكلمة.

كان "الداكوتاش" قد اندفعوا لساحة الحرب وها نحن نرى المحاربين يسرعون لمفاجأة العدو قبيل حلول الصباح، كانوا يسيرون ويركضون في صمت، وكانت تتقدمهم قوة استطلاع فيما ظلت المؤخرة إحدى الفريقات لتحميهم من أية مفاجأة، وانحدر الدرب عن المرعى، ليقودهم نحو أيكة صغيرة (لنسترح) قال لهم الزعيم رافعا صوته لأول مرة، وأضاف: (المكان معزول يمكننا أن نشعل نارا).

وعلى الفور جمع المحاربون كومة من الأعشاب والأخشاب المتساقطة، وسرعان ما إلتمعت النيران، فجلسوا حولها في استرخاء، أخذ البعض يصلح حذائه المقطوع، فيما رجع بعضهم إلى الأقواس والسهام بينما أخد آخرون يعدون وجبة للأكل، وأثناء انتظارهم العشاء أخذ البعض يحكون حكايات معارك ومغامرات عجيبة حدثت منذ زمن بعيد جدا، كانوا يتحدثون عن طلسم ذي قوة خارقة، كان قد حافظ على حياة العديد من المحاربين، وكانوا يحكون كيف أن جعبة سحرية كانت تحول سهام الأعداء إلى سلاح يرتد إلى قلب من أطلقوها.

وكانت النار تصغي – في صمت - لتلك الحكايات وهي تطلق دخانها حتى أطراف الأوراق الخضراء، ولكن في اللحظة التي قام بها عجوز أشيب ليؤدي الصلاة الرسمية أخذت النار ترتفع وتصطك وهي تلقي بالشرر في كل الاتجاهات.

وفي اللحظة نفسها حدثت ظاهرة أشد غرابة فقد ارتفع غناء من بين الأشجار المجاورة، ارتفع الصوت واتسع إلى أن ملأ الأيكة كلها بترنيمه، ثم رق وامتد ناعما ليختلط بتنهيدات الريح، فهمس الزعيم: (اطفئوا النار) وابتعد في الظلام، وبدا القمر وكأنه يستجيب لأوامر سرية، فخرج  عندئذ من بين السحب، فأضاء انعكاس ضوئه الشاحب جذوع أشجار البتولا الفضية، وتقدم المحاربون  _ في حذر _ بين الأعشاب الرطبة، وهم يراقبون، حذرين، ظلال الأشجار المحنية التي كانت تتأرجح مع الريح، كان الغناء مستمرا أبدا، وكان يتزايد وضوحها كلما اقتربوا من شجرة دردار أعلى من كل الأشجار الأخرى، في الحد الأقصى من الغابة الصغيرة.

عندئذ تحلق المحاربون في دائرة واسعة حول الشجرة الغامضة، وأخذوا يتقدمون ببطء خطوة خطوة، وأخذت دائرتهم تضيق والغناء يتصاعد إلى أن بلغ ذروة النغمة العالية، فانطفأ بالسرعة التي بدأ بها، وبدأ المحاربون الذين تجمعوا الآن تحت شجرة الدردار الجليلة يفحصونها من أعلى لأسفل، وهم يفتشون جذعها الذي أتلفته تقلبات الجو، وجذورها المتشابكة، عندئذ وداخل تجويف بين الجذور اكتشفوا كومة صغيرة من عظام هيكل عظمي كساه البياض، كانت بقايا محارب مجهول.

وبجوار الجمجمة كان يرقد قوسه المحطم، وعن بعد قليل كانت بعض السهام مبعثرة، فقال لهم الزعيم محطما الصمت المسترخي بالمكان، "ما سمعناه لتونا ورأيناه يشير إلى أن هذا المكان هو آخر مكان ارتاح فيه بطل ضحى بحياته من أجل الآخرين"، ثم واصل كلامه: "إن الموت نفسه لا يمكن أن يخرس صوت بطل كهذا، إن غناءه يستمر بلا كلل إلى أن تسمعه آذان الأحياء في نهاية الأمر ويلتقطوا رسالته وهو ما حدث للتو، يقع على عاتقنا أن نكون لسان حال هذه الأغنية والرسالة التي ترددها عن أكثر الواجبات الإنسانية قداسة: واجب التضحية بالنفس فداء للآخرين، علينا أن نصون هذه الترنيمة في ذاكرتنا، وأن نركع لأوامرها، إلى أن يحين اليوم الذي نصل فيه إلى "بلد الظل"، عندئذ لن تموت أغنيتنا - هي الأخرى-  مثل هذه الترنيمة، وسيظل صداها أبديا.
من أساطير الهنود الحمر، ترجمة راوية صادق، مجلة الكرمل. عدد 16، 1985. ص: 286 وما بعدها (بتصرف).

- النص القرائي - الأغنية الأبدية
- ملاحظة وتأطير وفهم نص الأغنية الأبدية
- المستوى التداولي والقراءة التركيبية لنص الأغنية الأبدية
- الرموز ودلالاتها في نص الأغنية الأبدية
- مضامين وأسلوب نص الأغنية الأبدية
- معجم الحقل الأسطوري والحقل الحربي في نص الأغنية الأبدية
أحدث أقدم

نموذج الاتصال