النص القراني (الوطن والوطنية) لعبد الحميد بن باديس

من نواميس الخلقة حب الذات للمحافظة على البقاء وفي البقاء عمارة الكون.
فكل ما تشعر النفس بالحاجة إليه في بقائها فهو حبيب إليها، فالإنسان من طفولته يحب بيته وأهل بيته لما يرى من حاجته إليهم واستمداد بقائه منهم وما البيت إلا الوطن الصغير.

فإذا تقدم شيئا في سنه اتسع أفق حبه وأخذت تتسع بقدر ذلك دائرة وطنه.
فإذا دخل ميدان الحياة وعرف الذين يماثلونه في ماضيه وحاضره وما ينظر إليه من مستقبله، ووجد فيهم صورته بلسانه ووجدانه وأخلاقه ونوازعه ومنازعه - شعر نحوهم من الحب بمثل ما كان يشعر به لأهل بيته في طفولته ولما فيه - كما تقدم - من غريزة حب الذات وطلب البقاء، وهؤلاء هم أهل وطنه الكبير، ومحبته لهم في العرف العام هي الوطنية.

فإذا غذي بالعلم الصحيح، شعر بالحب لكل من يجد فيهم صورته الإنسانية وكانت الأرض كلها وطنا له وهذا هو وطنه الأكبر.

هذا ترتيب طبيعي لا طفرة فيه ولا معدل عنه، فلا يعرف ولا يحب الوطن الأكبر إلا من عرف واجب الوطن الكبير، ولا يعرف ولا يحب الوطن الكبير إلا من عرف وأحب الوطن الصغير. والناس إزاء هذه الحقيقة أربعة أقسام:

1- قسم لا يعرفون إلا أوطانهم الصغيرة، وهؤلاء هم الأنانيون الذين يعيشون على أممهم كما تعيش الطفيليات على دم غيرها من الحيوان، وهم في الغالب لا يكون منهم خير حتى لأقاربهم وأهل بيتهم.

2- وقسم يعرفون وطنهم الكبير فيعملون في سبيله كل ما يرون فيه خيره ونفعه ولو بإدخال الضرر والشر على الأوطان الأخرى بل يعملون دائما على امتصاص دماء الأمم والتوسع في الملك لا تردهم إلا القوة. وهؤلاء شر وبلاء على غير أممهم ، فهم مصيبة البشرية جمعاء.


3- وقسم زعموا أنهم لا يعرفون إلا الوطن الأكبر وأنكروا وطنيات الأمم - كما أنكروا أديانها - وعدوها مفرقة بين البشر. وهؤلاء عاكسوا الطبيعة جملة وما عرفته البشرية منذ آلاف السنين ودلائل الفشل على تجربتهم حيث أجروا تجربتهم لا تكاد تخفى.

4- وقسم اعترف بهذه الوطنيات كلها ونزلها منازلها غير عادية ولا معدود عليها، ورتبها ترتيبها الطبيعي في تدرجها، كل واحدة منها مبنية على ما قبلها ودعامة لما بعدها. وآمن - هذا القسم - بأن الإنسان يجد صورته وخيره وسعادته في يته ووطنه الصغير وكذلك يجدها في أمته ووطنه الكبير ويجدها في الإنسانية كلها وطنه الأكبر.

وهذا الرابع هو الوطنية الإسلامية العادلة. إذ هي التي تحافظ على الأسرة بجميع مكوناتها وعلى الأمة بجميع مقوماتها وتحترم الإنسانية في جميع أجناسها وأديانها.

عبد الحميد بن باديس، مجلة الشهاب، الجزء السابع، ص: 304 – 307 (بتصرف).

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال