مشكلة الحج بين نجد والحجاز.. عدم استجابة بريطانيا وعبد العزيز بن سعود لمطاليب شريف مكة في واحتي الخرمة وتربة

امست مشكلة الحج عائقا دون تفاهم الطرفين والواقع ان هذه المشكلة لا تعدو من كونها امتدادا للعلاقات المتردية السابقة، وتكاد تبدو وكأنها النتيجة التي خرجت بها معركة (تربة) بالنسبة لعلاقة الطرفين، وسلوك من الحسين يضم في جوانبه نوعا من ردود الفعل لكبريائه التي تزعزعت في المعركة المذكورة، وعدم استجابة بريطانيا وعبد العزيز بن سعود لمطاليبه في واحتي الخرمة وتربة الى جانب اسباب اخرى ـ يأتي ذكرها ـ حاول الحسين تحقيقها عن طريق موسم الحج والتحكم بأمره.

ومن هنا جاءت بداية هذه المشاكل بعد معركة (تربة) مباشرة تقريبا وفي عام 1920 على وجه التحديد، لا كما ذهب (وهبة) في عدة عام 1921 بداية لهذه المشكلة. وهذا ما يتضح من خلال الوثائق المتوفرة لدينا.

وأساس المشكلة هي القيود التي عمد الحسين الى فرضها على الرعايا النجديين الوافدين للحج وما ترتب على ذلك من إعاقة لحجهم.

والواقع ان الحسين لم يظهر بادئ الامر ـ وانسجاما مع موافقته المبدأية كما تقدم ـ اعتراضه على حج النجديين، وهذا ما حفز السلطات البريطانية لاتخاذ مايلزم، لحفظ الامن، فعمدت الى إيفاد من يمثلها من الضباط الهنود لمرافقة قافلة الحج النجدية والاستفسار من سلطان نجد عن عدد الحجاج الوافدين، والسعي لتقليلهم قدر الامكان بما في ذلك مرافقيهم من المسلمين، في الوقت الذي نصحوا فيه الحسين بمنع تمركز قواته في الطرق التي تسلكها قافلة الحج النجدية حفظا للأمن.

الا ان السلطات البريطانية لم تضع في الحسبان تغيير لموقفه، وهذا ما اتخذه بالفعل خلافا لتعهده السابق، فيما حدد عبد العزيز بن سعود (18 تموز) كآخر موعد لتوجه رعاياه الى الحج. فسعت السلطات البريطانية حينها لتسوية الامر سلميا دون اللجوء الى القوة، واقترحت عرض القضية امام الحسين حالة اندلاع صعوبة ما.

كان الشرط الذي اشترطه الحسين بداية الامر لقبول الرعايا النجديين للحج هو مجيئهم غير مسلحين وعلى مستوى من الشعور بالمسؤولية، الا انه ـ وكما يظهر من التقرير المتأخر الذي رفعه الكولونيل (فيكري) المعتمد البريطاني في جدة في حزيران ـ كان قد ادخل في 28 مايس شرطا جديدا مفاده رفض الرعايا النجديين، ما لم يتم التوصل الى اتفاق نهائي مع عبد العزيز بن سعود.

ومع عدم ارتياح الانكليز لهذا الموقف الا انهم ضغطوا على ابن سعود في تقليص عدد رجاله المسلحين الى اقصى حد ممكن، كما ذهبوا من جهة اخرى الى تذكير الحسين بوعده السابق في قبوله الحجاج النجديين وما تقتضيه الظروف لاستغلال مثل هذه الفرص لتكون بداية طيبة في علاقات الطرفين.

لقد كانت للحسين ـ الى جانب هدفه المنوه سلفا من وراء هذه الموقف ـ مبرراته التي تحمل معها نوعا من الصحة، فهو في تشديده على منع النجديين من حمل السلاح خلال دخولهم الحجاز، انما لخشيته من قيام حرب اهلية قد تنشب بين النجديين واهالي الحجاز، في وقت لم تكن فيه قواته النظامية على استعداد كامل لتحمل مسؤولية حفظ الامن في الداخل، بسبب الوضع الاقتصادي المتدهور للدولة.

اذ كان الحسين عاجزا عن تمويل هذه القوات رواتبها الشهرية، والتي لما تستلم حينها ـ قوات المدينة مثلا ـ رواتبها منذ ثلاثة اشهر، فما الذي يحفزها الى العمل الجاد؟.

يضاف الى ذلك عجز الحسين ايضا ـ وهو الاهم ـ من مواصلة اتباعه من العشائر بالاعانات المالية المعتادة الامر الذي كان يحرضها بالتأكيد لاستغلال مثل هذه المناسبات المهمة.

كمناسبة الحج لنهب ما يمكن نهبه من الحجاج.
ومن هنا لم يكن التفات المسؤولين الانكليز الى ذلك أمرا ارتجاليا.

فقد ابرق (كررزن) الى (اللنبي) يخوله بدفع مبلغ (000/30) جنيه استرليني الى الملك حسين كأقصى حد، تاركا له ما يرتأيه في ضمان صرف المبالغ من قبل الحسين في كسب طاعة القبائل البدوية، سواء بتسليمه قسم، وترك قسم آخر لحين اجتماعه بابن سعود، او أي طريقة اخرى.

وإذا ما تمكن الحسين من السيطرة على اتباعه واسكانهم بواسطة هذه الاعانات فإن على الحسين ـ كما ابلغ كررزن اللنبي ـ ان يقوم بنقل اقتراحه ـ القاضي بترك النجديين لأسلحتهم في الطائف ـ الى عبد العزيز بن سعود، سواء عن طريق المعتمد البريطاني، او برسالة خاصة من الملك حسين نفسه.

هذا وقد أبدت السلطات البريطانية من جهة اخرى استعدادها للتحكيم بين الحاكمين حالة خروج اجتماعهما المقترح ـ في جدة او عدن ـ بدون نتيجة مرضية، وإيفاد موظف بريطاني لهذا الغرض بعد انتهاء موسم الحج.

الا ان الحسين رفض العروض البريطانية الاخيرة، كما رفض التعهد بالاجتماع مع عبد العزيز بن سعود، او ضمان وضع سلمي معه.
اذ ان استجابته لهذه الدعوة مقابل (30) الف جنيه، تعني انه دون مركزه، فضلا عن كون هذه الاعانات جزءا فقط من المعونة التي كانت تدفع اليه في السابق بإستمرار.

وذهب مطالبا بدفع المبلغ المذكور دون أية شروط مهددا بالتنازل عن العرش حالة رفض بريطانية لمطلبه هذا.

ولما كانت احتمالات قيام الفوضى اثناء موسم الحج امرا واردا للأسباب المذكورة اعلاه، فلم ير الانكليز مانعا من الاقتناع بضرورة ما كان قد اقترح حضوره في السابق من الجنود الهنود لحفظ الامن اثناء الحج.

خصوصا وانهم لما يتفقوا حول تسليم المبالغ المذكورة للحسين لعدم تيقنهم من مدى فاعليتها على موقفه، وبعد الاخبار التي اوردتها التقارير البريطانية من مكة عن القوات والتجهيزات التي شرع بتوجيهها باتجاه سورية، وصعوبة تثبتهم من ان المبالغ سوف لن تستخدم في اغراض مشابهة.

ودفعت الشكوك الاخيرة بالانكليز الى معالجة الوضع من وجهتين، حينما حالوا الموازنة بين اهتمامهم في تسوية حج النجديين وبين اهتمامهم بمصدر القلق الجديد المتمثل باحتمالات نشاط عسكري يوجهه الحسين ضد فرنسا في سورية، فارتأوا تسليم المبلغ كاملا الى الحسين بغض النظر عن اصراره على موقفه السابق من قضية الحج، على ان يشار له بأهميتها وانتظار بريطانيا لقبوله ممثلي عبد العزيز بن سعود، الى جانب رغبتها في استخدام هذه الاموال للاغراض المحلية وليس ضد فرنسا.

ومع ان اقتراحا كان قد طرح بعدم تسليم المبلغ كليا لاشعار الحسين بتوقف اعاناته المالية وانخفاضها، الا ان المسؤولين ارتأوا صرفها كاملة، اذا ما استخدمت لاغراض غير سلبية.

ومن جهة أخرى لم يكن الوضع في الحدود يبشر بتحسن ما، كما يتضح من الاستياء الذي أبرق به عبد العزيز بن سعود إلى الميجر (دكسن) المعتمد السياسي في البحرين في كانون أول 1920، والتي أشار فيها الى التحركات التي أخذ يقوم بها الأمير علي في أطراف تربة رغم الهدنة الموجودة في الطرفين وهو في الوقت الذي يعرف فيه عن حراجة موقفه بين أهالي نجد يقتراح ثلاث صور لتحديد الحدود مع الحجاز "فإما تحديد الحدود كما في السابق والإدارة فيها بذاتها، أو اختيار اهلها لم سيمثلون من الطرفين وإن أمكن إطلاق بعضهم على بعض فلا يحملون المالم علي ولا يواجهوا من العتاب".

وفي الوقت الذي ينبه في السلطان المسؤولين الإنكليز في البحرين عن وضع الحدود غير المستقر، كان فيصل خلال وجوده في لندن، يعمل ساعيا في حل الخلاف سلميا فإنه أعرب للورد (كورزن) ـ خلال اجتماعه به في كانون الثاني 1921ـ عن قلقه وقلق والده لاحتمال مهاجمة الوهابيين مكة.

واستفسر عن موقف الحكومة البريطانية من ذلك بحكم مسؤوليتها في حماية الحجاز كما وعدت.

وطبيعي أن يستخدم (كورزن) هذه الدعوة ورقة رابحة من الحسين لإجباره في التوقيع على معاهدة فرساي ـ فبإمكانه ـ كما اوضح (كورزن) ـ الاستنجاد بعصبة الأمم التي سينتمي لها رسميا اذا ما صادق على المعاهدة.

ومع موافقة فيصل للإقتراح الأخير وعزمه على استشارة والده بهذا الشأن، إلا انه كان على غاية من القلق الى الحد الذي كان يخشى فيه مباغتة الوهابيين والده قبل التشاور معه بالأمر.

ورغم ارتياحه لما سمعه من (كورزن) عن إحراز القوات الحجازية نصرا على القوات الوهابية وتضائل خطورتهم، فقد ظل يؤكد على اهمية الردع البريطاني لهذه الاعتداءات التي ستكرر مستقبلا.

الا أن (كورزن) أبدى تململه لذلك، وذهب الى تجريد حكومته من المسؤولية، بعد إخفاق جميع المحاولات التي بذلتها لتسوية النزاع، وحتى إذا كانت لديها الرغبة في إرسال قواتها لحماية الحجاز، فإنه عاجز عن اتخاذ مثل هذا الاجراء إضافة الى عجز حكومته في تزويد الحسين بالأسلحة، لخطورة ذلك في تعميق النزاع فضلا عن كونها خليفة كلا الحاكمين، ورغبتها في تسوية نزاعهما سلميا.

إلا أن (كورزن) ومع ما أبداه من الملاحظات، لم يمتنع عن محاولة تهدأة فيصل وتبديد مخاوفة وبأنه" اوضح لابن سعود بأن مثل هذا الهجوم يعتبر عملا عدوانيا، ولا أعتقد أن ابن سعود سيفعل ذلك، لأن التهديد يقطع المعونة، قد يؤثر على تعديل موقفه".

ورغم عدم تيقن (كورزن) بمدى قناعة فيصل بهذه الوعود، فإنه تقدم (لكورزن) بمبادرة يعتقد الأخير بأهميتها بالنسبة للنزاع الحجازي ـ النجدي، تلك هي توسط الامير فيصل بين طرفي النزاع، وعزمه في عقد مؤتمر يتولى حسم المشاكل القائمة بينهما.

لقد أبدى الحسين ارتياحه للإهتمام النسبي الذي نقله فيصل.
إلا انه وحتى نجله لم يعزفا على إبلاغ مخاوفهما وقلقهما من الغزو الوهابي المرتقب، إلى جانب المطالب بالضغط على سلطان نجد بالانسحاب عن الأراضي التي احتلها، والبقاء على ما كان عليه في العهد العثماني، وهي حلول طالب الحسين بتنفيذها بشكل عاجل لضمان أمن وسلامة موسم احج القريب.

ومن الطبيعي أن تأتي مواقف الحسين اللاحقة من قضية الحج أو غيرها ضمن الإطار العام للنزاع كما توضح، اذ استمر على معارضته لحج الرعايا النجديين، في الوقت الذي واصلت فيه السلطات البريطانية مساعيها لاقناعه.

فقد حث كوكس حكومته لدفع الحسين الى ما يسوي هذه المشكلة، بما في ذلك تعهده.
من قدومهم بمعزل عن سلاحهم لعجز ابن سعود في منعهم عن ذلك.
فيما دعا كوكس الامير فيصل الى الإسهام في تسوية هذه المشكلة.

بيد أن الأخير وتلبية لما أنيط به، لم يختلف في موقفه عن والده كليا، حيث اشترط ـ ولضمان موافقة الوالد ـ قدوم النجديين بمعزل عن أسلحتهم، شريطة تحمل بريطانيا مسؤولية ما يقع من جانبهم.

ومع رغبته لحل النزاع القائم، أعرب فيصل عن شكوكه من نوايا سلطان نجد في إدخال الآلاف من رعاياه الى الحجاز تحت إسم الحجاج، بعد الهجمات التي أخذت تشنها قواته على ضواحي الطائف، خصوصا وإن الحجاز يفتقر وبسبب الضائقة المالية الى القوات الكافية لدرء المخاطر، وجدد موقف والده السابق في صعوبة الموافقة على مجيء حجاج نجد دون عقد صلح نهائي بين السلطان ووالده، وهدد بالخطر المترتب على مجيئهم (الوهابيين) على ارواح الحجاج.

وختم قوله مخيرا بإرجاعهم إلى ديارهم، إو إحضار قوة كافية الى الحجاز لتلافي الأمر والمحافظة على سلامة الزوار.

واعتذر فيصل مجددا على لسان والده للأسباب المدرجة اعلاه وطالب بإلحاح إسعافه بأربع طائرات وخمس سيارات مدرعة مع مقدار كاف من المال كقرض يحسب على المبالغ التي ستدفعها بريطانيا للحسين فيما بعد.
وأكد أهمية الإسراع في تلبية ذلك سلامة الحجاج.

عاد فيصل وبعد اتصاله بوالده وكرر مناورات ومعاذير الوالد نفسهما في برقيته التي بعثها الى الحكومة البريطانية عن طريق الجنرال حداد ممثل الحجاز في لندن في 16 مايس 1921.

فوالده يوافق على مجيء النجديين الى مكة وبشروط لا تضايق عبد العزيز بن سعود، لكنه ولافتقار الحجاز الى قوات أمنية كافية لحفظ النظام، يؤكد ـ وهذا ما كان يسعى اليه ـ على اسعافه بثمانين الف جنيه كقرض ضمن حساب مخصصاته التي كان يعتقد استئناف الحكومة بصرفها له، الى جانب الطائرات والمدرعات التي كان قد طلبها ليتمكن من بناء التشكيلات السريعة التي يمكن بها حفظ الامن وسلامة الحجاج.

واعاد تهديداته المعهودة في الانسحاب الى جدة، خوفا من تحمل المسؤولية.
وقد شاطره نجله الملك فيصل "فالخطر جدا عظيم بسبب فقدان القوة اذ علمتم ان واردات الحكومة 20 الف جنيه سنويا، تقدرون صراحة الموقف، فالحكومة التركية كانت تحافظ الحج بفرقة عسكرية كاملة %".

وقد ابلغ الحسين الحكومة البريطانية بأن لا مجال للتماطل او التردد بعد تجدد الهجمات الوهابية التي اخذت تشن على ضواحي الطائف وما رافقها من السلب والنهب والقتل"، والتي كان يقودها خالد بن لؤي واتباعه الذين كانوا من خاصة ابن سعود... فلم تمانع بريطانيا من الاجابة على طلبه ووجه اللورد كررزن انذاره الى عبد العزيز بن سعود بشأن التحركات الاخيرة لاتباعه في ضواحي الطائف، ونبهه بوقوف بريطانيا ضده.

بينما ابلغت الاخيرة مسؤوليتها في العراق بالضغط على السلطان ومنعه من القيام بحركة اخرى.
وجريا مع تطور هذه النزاع اكد الحسين على موقفه مجددا من حج النجديين للعام الجديد 1922، وراح كل من الامير زيد والملك حسين للاتصال بالملك فيصل بهذا الخصوص.

فقد اوضح زيد خطورة الوضع هذا الموسم كالعادة، بعد عزم النجديين بالحج مسلحين، وذهب مبالغا في تصوير هذه الخطورة... واحتمال نشوب القتال داخل الحرم، اذا ما تم دخولهم الحجاز.

بينما استفز الحسين نجله فيصل بعزمه الانسحاب مع حكومته الى جدة حالة تقدم الرعايا النجديين الى بلاده، وطالب فيصل بإبلاغ مواطنيه بهذه الاوضاع  وتعبيرا عن تصوراته للنزاع الدائر، وتلبية لدعوة عائلته، اتصل فيصل بالسير (برسي كوكس) المندوب السامي البريطاني في بغداد، واعرب له عن قلقه للخطر الوهابي المحدق بعائلته، فضلا عن علاقة ذلك بمصالح العراقيين ايضا "فإنني نظرا لتعلقي الديني بمقدساتي وقبور اجدادي واعراض عائلتي، أرى ان البقاء هنا تحت أي عنوان لا يكون مقابلا للعار والخزي اللذين سيلحقاني عند وقوع الخطر، لذلك اطلب من فخامتكم ان تبلغوني بظرف سبعة ايام اما بمنع الوهابيين هذه السنة والا بعد ان أعطي بياني لرعاياي العراقيين وأبين لهم سبب فراقي، اتنازل عن عرش حكومتهم واذهب بأي طريقة كانت لكي اكون مع افراد عائلتي الذين ارى بعيني الآن دماءَهم التي سترهق واعراضهم التي ستهتك.

وتلبية لاوامر (كورزن) المتقدمة في الضغط على عبد العزيز بن سعود، وازاء تصريحات فيصل الاخيرة، عمد المسؤولون الانكليز في بغداد لايجاد ما يهدئ الموقف، وحاول كل من المس (بيل) والملك فيصل وضع اقتراح يوقف حج النجديين هذا العام، وعرضه على السير (برسي كوكس)، لكنهما لم يوفقا في ذلك، كما يظهر من حديث (بيل) نفسها لصعوبة المشكلة.

ومع ذلك فقد اخذ كوكس على عاتقه اقناع عبد العزيز بن سعود، واتصل به في مايس 1922، معاتبا اياه على الاحداث الاخيرة التي سببها أتباعه، وتناقض ذلك مع وعوده التي قطعها في العام الماضي في منعه لاي نشاط معادي، واعرب عن ثقته في تفهم ابن سعود لمشاعر القلق التي سببتها الكراهية الموجودة بين بعض رجال قبائل كلا الطرفين في منطقة الحدود، وخطورة تطورها الىالحد الذي لا يمكن ادراك مداه بسهولة، وراح معربا عن رغبته في الحصول على تعهد ايجابي من صديقه النجدي، والملك حسين على السواء... ومع امكانية السماح للحجاج النجديين ـ اوضح كوكس ـ فإن ذلك لا يتم دون اتخاذ الاجراءت الوقائية من قبل الجانبين... واذا كان من الصعب على عبد العزيز بن سعود منع اتباعه من الحج هذا العام ـ وهذا ما يأمله كوكس ـ فإنه يناشده في الوقت ذاته بإرسال مع يعتمد عليه من ممثليه والقادرين على تحمل مسؤولية رعاياه الوافدين للحج، وما يقتضيهم من اظهار الطاعة لسلطانهم امام الحكومة البريطانية والعالم، واوضح كوكس ان تنفيذ عبد العزيز بن سعود لالتزاماته في ضبط أتباعه في الحج، سيقابل بالرضا التام من قبل المعنيين، وأكد على بذل الجهود لإجبار الحسين في تنفيذ تعهداته من جانبه..

واستجابة لهذه المساعي، أظهر الحسين موافقته لقدوم النجديين، إلا أنه طلب من الميجر (مارشال) الوكيل البريطاني في جدة أن يعين له أسماء القرى الوافدة للحج، وتجديد عدد الوافدين منهم لهذا الغرض، دون أن يتخلى عن تشكيه "وإنه غير مسؤول عما يقع في الحج هذه السنة".

وقد أعرب عبد العزيز بن سعود عن ارتياحه لهذا الموقف ووعد كوكس بتقليل عدد الوافدين للحج من رعاياه، تنفيذا لنصائحه، وأكد ثقته بتجنب أتباعه ما يكدر صفو الحج وعزمه في تعيين أخيه سعد أو مسعد رئيسا للوفد النجدي ليتولى مسؤولية قيادتهم.

ورداً على استفسار كوكس عن الصلح مع الحسين أكد ابن سعود رغبته لذلك، وأشار الى نيته في مراسلة الحسين بواسطة أمير الحج بل وخوّل كوكس في إبلاغ الحسين شكره، لموقفه الأخيرن ورغبته في تحسين العلاقات... إلا أنه طالب الوكلاء البريطانيين في مكة بمراقبة الحج منعاً لما قد يسيء الظن أو يثير الاضطراب.

وعلى أية حال فقد حج النجديون تحت إمرة أحد كبار أتباع ابن سعود (مساعد بن سويلم) بعد أن حدد عدد الوافدين إلى الحج كما جاء في توصيات كوكس السالفة . وساد شيء من التوادد بين الطرفين تبادل خلاله الجانبان بعض الرسائل الودية.

وأظهر الحسين ترحيبه بممثل ابن سعود والحجاج النجديين الذين قارب عددهم إلى (1800) شخص، وخص بعضهم بضيافته الملوكية . فكانت زيارتهم على قول (مارشال) المعتمد البريطاني في جدة ـ موفقة وناجحة.

لقد كان موقفاً وقتياً ذلك الذي أبداه الحسين، وهذا ما عهدناه عن العلاقات منذ البداية.
حيث تردت مجدداً، ولعل ما ألهب فتيلها هذه الاونة، التوسعات التي تمادى فيها عبد العزيز بن سعود في الجزيرة.

إذ لم يكتف الحسين باحتلال إمارة حايل، وعمد إلى احتلال إمارة (أبها) في عسير، فضلاً عن الهجمات التي أخذت تشنها قواته ضد شرق الأردن ومعان والسكة الحديدية.

فكان ذلك مثار استياء الحسين وسخطه، حيث عاود احتجاجاته لدى السلطات البريطانية، وتساءل مستنكرا عما إذا كانت التجاوزات الأخيرة، هي ما يكافأ به جراء التزاماته بالمشورة البريطانية الأخيرة بشأن الحج وحفاوته بوفود السلطان ورعاياه الحجاج؟ وراح في برقيته التي وجهها الى المعتمد البريطاني في جدة ـ يعرب عن ريبته بالدور البريطاني في هذا الشأن.

إذ أن "ابن سعود هو أضعف وأدنى أو أصغر من ان يهاجم قرية الدخنة الواقعة في قرية القسيم.
إلا ان هذا عمل مرتب من أجل أهداف ونوايا خاصة... وأنا لا أجد مبرراً لمثل هذه النتائج... أريد توضيح وضعي وان أتبين ما حصلت عليه من هذه المعاملات المدهشة التي تربك كل إنسان في العالم".

والواقع أن ما نوه إليه الحسين في عباراته الأخيرة واحد من الحقائق الملموسة في السياسة البريطانية التي لا تقر إنهاء النزاع بين حلفائها لعقم هذه الخطوة في الستراتيجية البريطانية وتقديراتها البعيدة في المنطقة.

وهي بإبقائها على الوضع القلق أكثر تحكماً ومرونة في تحقيق أهدافها لحين مجيء الفرصة المناسبة للإستغناء عن هذه اللعبة لأخرى، ولعل هذا ما يفسر استفسار الحكومة البريطانية من الحسين ـ في مثل هذا الوقت من توتر العلاقات ـ في خطاب سري عما إذا كان الأخير مستعداً لقبول بعض التعديلات في مشروع معاهدة 1921 التي كانت تنوي عقدها معه.

والواقع ان الحسين لم يبخل تحليل ما أدركه من هذا اللغز في رده على الاستفسار البريطاني في 17 حزيران 1923 بقوله (قد تحقق ظنه الآن بأن الغيظ والغضب علينا من بريطانية العظمى بشأن المعاهدة هو من جهة المواد المتعلقة بعبد العزيز بن سعود، وهذه المسألة نقول عنها إلا شيئاً واحداً هو ان عظمتها ترجح عبد العزيز بن سعود علينا، فهل من يقول، إذا لم ترو أننا نكون معه على ما كان عليه الآباء والأجداد في المادة والمعنى خذوا البلاد كلها وسلموها إليه ولا تبقى عليه مؤاخذة أو معاتبة وهل من موجب بعد هذا مشاركة بريطانية له على ما يسفك من الدماء وما ينهب لإعانتها له بالمال والسلاح).

ولم تتحرج جريدة القبلة من الإشارة إلى هذه الحقيقة عند تعرضها لبعض الصحف العربية التي تمادت في تهويل النزاع الحجازي ـ النجدي، حيث اتهمت هذه الصحف بالتواطؤ، ومحاولة منها لخلق النزاعات والاقتتال في هدف النيل من القضية الفلسطينية وتأسيس الوطن القومي لليهود في فلسطين، بينما ينصرف العرب الى تناحراتهم الداخلية.

هذا إذا علمنا ان الحسين لم يمتنع من اتهام بريطانيا هذه الفترة ـ من كونها سبباً في خلق الوطن القومي لليهود ، وكررت ذلك جريدته الرسمية في أعدادها المختلفة..

وعلى اية حال فإن الحسين ـ في استئنافه لموقفه السابق من ابن سعود ـ لم يستغن عن اسلوبه القديم، والتمسك بقضية الحج من جديد في محاولة لتلبية مطاليبه فتارة يعتذر عن قبول النجديين خشية الإخلال بالأمن، وتارة يوافق على قبول عدد معين منهم، وأخرى يشترط مجيئهم عن طريق البحر كباقي الحجاج.

وبالمقابل اتصل عبد العزيز ابن سعود بصديقه كوكس في 2 كانون أول 1923، ويعرب عن عجزه في تحديد رعاياه كالسابق، ويكرر موقفه هذا في 28 كانون الثاني 1923، فيما يرفض الحسين اقتراح السلطات البريطانية في عقد صلح مع عبد العزيز ابن سعود ما لم يتنازل عن المناطق التي احتلها من بلاده.

لقد كان طبيعيا ان تعبر السلطات البريطانية عن امتعاضها لعودة الحسين إلى مناوراته من جديد، وأوضحت دار الاعتماد البريطانية في جدة في مذكرتها إلى وزارة خارجية الحجاز في حزيران 1923، بصورة غير مباشرة موقف الملك حسين السلبي ـ خلال تعرضها لقضية الحج ـ في وقت ظلت فيه الحكومة البريطانية تضغط على عبد العزيز بن سعود لتحديد عدد رعاياه من الحجاج، وتساءلت المذكرة عن السنوات التي منع فيها أهالي نجد من أداء فريضة الحج حتى الآن، وذلك بسبب الطلب الشخصي للملك حسين، الذي كان يجابه المساعي البريطانية بالإصرار وعرقلة هذه المحاولات.

وأضاف (جرفتي سميث) المعتمد في جدة في مذكرته هذه إلى ما يعنيه إرجاء تسوية هذه القضايا من عرقلة لتثبيت الأوضاع السياسية في البلاد العربية.

وعن محاولة تسوية هذا النزاع فإن لابد وان بحث فيصل مع أخيه الأمير عبد الله لدى زيارته الأردن عام 1923 هذه الأوضاع رغم تظاهره (فيصل) بتجرد هذه الزيارة من أية أهداف سياسية ـ رداً على استفسار المندوب السامي هنري دوبس ـ لكنه بيّن تدهور علاقة كل من والده وأخيه مع السلطان عبد العزيز بن سعود والخسائر التي تكبدتها عائلته من جراء الهجمات الوهابية على الأردن والحجاز، ودعا إلى تدخل بريطانيا في الأمر نظراً لعجز عبد العزيز بن سعود عن مخالفة الأوامر البريطانية، ومن هنا فإن أي تحسن في هذه العلاقات بعيد الاحتمالات دون بريطانيا.

ولم يكن لهذه الدعوة أي استجابة، فيما استأنفت القوات الوهابية هجماتها وتجاوزت في تشرين الاول 1923 على الخط ما بين نقطة مداين صالح والمدينة المنورة (على بعد ثمانين ميلا من المدينة المنورة) وقامت بتخريب الخط المذكور ونهب موجودات المحطات المقامة حديثا لتأمين نقل الحجاج، فضلا عما ذهب جراء ذلك من الارواح والاموال.

وقد ظل الوهابيون يرابطون في مواقعهم ويحاصرون الحدود الشمالية للمدينة.
وقد ابلغ فيصل برقيا من عمان ومكة بهذه الاعتداءات فاحتج لدى السير هنري دوبس المندوب السامي في بغداد عن التجاوزات الاخيرة في وقت تبذل فيه المساعي للصلح واتهم بريطانيا بمحاباة عبد العزيز بن سعود، الذي لم يلتزم بتعهداته في تامين طرق الحج.

وتساءل فيصل فيما اذا كانت بريطانيا تسمح بمثل هذه الاعمال، ام انها ما زالت تكن احترامها للاماكن المقدسة.
وكرر فيصل عدم ارتياحه للتجاوزات الاخيرة خصوصا وان له رعايا يؤمون الحج سنويا، قد تعرض ارواحهم او مملكاتهم لهذه المخاطر.

واتهم بريطانيا بصورة غير مباشرة، في قدرتها على ردع عبد العزيز بن سعود خصوصا وان لها من الرعايا المسلمين ما يقارب 100 مليون نسمة هم بحاجة الى تأمين سبل اتمام حجهم للأماكن المقدسة واضاف "انني على اعتقاد تام بأن ما يرتكبه السلطان من الاعمال لا ينطبق على رغبة حكومة جلالة الملك وما هو الا نتيجة ما يرى المشار اليه (ابن سعود من التساهل ولو انه رأى الشدة اللازمة لما تجاسر على هذه الاعمال).

واستشهد بتراجعه عن العراق وشرقي الاردن بعد استخدام القوة معه، واوضح ان السلام لن يعود الى الجزيرة دون هذا السبيل.
وطالب فيصل دوبس بإبلاغ حكومته للاسراع في ما يكفل ايقافه عند حده.

ونبهه الى الحشود التي اعدها عبد العزيز بن سعود على حدود المدينة واغارتها على الحدود الشمالية والغربية منها. وتشبث بالحكومة البريطانية لردع هذه التحركات.

وكرر مناشدته من جديد في 30 تشرين الاول، واوضح لدوبس الخسائر التي الحقها الوهابيون بسكة الحديد، حيث تمكنوا من تدمير (10كم) منها، فضلا عن تخريبهم لجميع المحطات الواقعة بين مداين صالح والعلا والبدايع، على ضوء ما جاءه في برقية اخرى من عمان وطالب الحكومة البريطانية الاعلان عن موقفها الصريح بأسرع وقت ممكن، وأعرب عن ثقته في عزم بريطانية على دفع الكارثة عن المدينة المقدسة.

واشار فيصل الى ان ما يهدف اليه هو قطع بريطانيا لعلاقاتها معه وكذلك الحال بالنسبة لمواصلاته مع الاحصاء ومنع الكويت من اغاثته بالارزاق والذخائر, الامر الذي يكفل ردعه عن أي عدوان.

وقد هدد فيصل باستفزازه المسلمين في العراق لاداء واجبهم الديني في هذه القضية، وهو يؤجل هذه الخطوة لحين تسلمه موقف الحكومة البريطانية وقرارها بهذا الشأن.

كما وبعث رئيس الوزارة العراقية بمذكرة مماثلة للمندوب السامي البريطاني ضمنها قلق الحكومة والاهالي للاحداث القائمة على حدود الحجاز واثر ذلك على العلاقات البريطانية العراقية والنجدية البريطانية على السواء، وطالب بإبلاغ ذلك الى حكومته ولسلطان نجد معا، واتخاذ ما يكفل بإرجاع الوهابيين الى مواقعهم بعد ان ظلوا يحاصرون المدينة من الشمال.

واعقب فيصل رئيس وزرائه بمذكرة اخرى الى دوبس بواسطة رئيس ديوانه (رستم حيدر)، ضمنها مضمون برقية اخيه الامير علي التي تسلمها في 7 تشرين الثاني 1923، عن هجوم الوهابيين الذي اشرنا اليه، اضاف فيها صعوبة التفاهم مع عبد العزيز بن سعود دون تخلي الاخير عن الخط الحديدي.

وعلى اية حال فإن الصيحات الاخيرة قادت بالتالي الى ايداع معالجة النزاع الى مؤتمر اقترح عقده في الكويت للنظر في الوصول الى اتفاق معين بين الاطراف المتنازعة.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال