موقف الحكومة البريطانية من أحداث تربة وهزيمة شريف مكة أمام ابن سعود.. ترجيح كفة عبد العزيز بن سعود وعدم معاداته بسبب الحسين والدعوة لتنحيته عن الحكم لما يوفره من تسوية للموقف

جزع الحسين لنبأ الهزيمة وبعث بخمسمائة جندي نظامي تحت قيادة محمود القيسوني وزير الحربية الى الطائف لحمايتها بعد ان اصبحت ابواب الحجاز مفتوحة امام الوهابيين واضطر الى الاتصال بالمعتمد البريطاني في جدة بواسطة نائب رئيس وزرائه عبد الله سراج.

وقد استجاب المعتمد لدعوة سراج في التوسط، ووعد بإبلاغ حكومته واطلاعه على جوابها، كما طلب من سراح بإعداد مساحة من الارض بجوار جدة تحسبا لهبوط الطائرات التي قد تبعثها بريطانيا، بينما دعاه للاجتماع به في جدة.

وفي الاجتماع الذي تم بينهما اقترح الكولنيل ولسن الاتفاق على عقد مؤتمر يجمع بين ابن سعود والحسين لتصفية خلافاتهما، غير ان الحسين طالب الاتفاق على جدول اعمال المؤتمر مقدما والقضايا التي سيتناولها ورفض اقتراح ولسن بتأجيل ذلك الى انعقاد المؤتمر، الامر الذي افشل المشروع بالتالي من جهة اخرى أبرق الكولنيل ولسن لحكومته ـ كما وعد ـ عن التطورات الاخيرة ووصف الرعب الذي عم الحجاز، وتقاطر الناس الى الساحل من ضمنهم (000/11) من الرعايا الهنود وحذر من استمرار الوهابيين في تقدمهم نحو الطائف، فضلا عن احتمال تفشي الامراض بين اللاجئين المزدحمين في جدة نظرا لشحة المياه وافتقار المدينة للعناية الصحية، وطالب باتخاذ الاجراءات الكفيلة حفظا للسمعة البريطانية.

وبسماع كررزن لهذه الانباء عقد اجتماعا عاجلا دعا فيه كبار المسؤولين العسكريين ومن بينهم (فلبي) نفسه الذي كان في لندن حينها.
وطالبهم ـ بعد ان اشار للحرب الاخيرة وخيبة الحسين فيها، وبرقية الكولونيل ولسن من جدة ـ بإبداء رأيهم في الموضوع، وفيما اذا كان بوسع ممثلي وزارتي البحرية والحربية من تقديم عونهما اسهاما في انهاء الوضع في وسط الجزيرة، لكن الاخيرين اعتذرا لطلب اللورد كررزن، فقد ابدى الاميرال الاقدم عجز الاميرالية عن تقديم أي خدمات بناء على التعليمات التي لديه وذلك لقلة البواخر المتوفرة حاليا الى الحد الذي لا يمكن فيه اعداد باخرة واحدة وأبدى كبار القادة العسكريين في وزارة الحربية اعتذارهم ايضا وعدم استعدادهم للقيام بعمل يذكر، وعزم الوزارة في تجنب ما يورطها في شؤون الجزيرة.

اما بالنسبة للمستر فلبي فقد حاول طمأنة اللورد كررزن لاعتقاده بعدم مواصلة الوهابيين تقدمهم، فاستاء اللورد، لثقته بالأخبار التي بعثها الكولونيل ولسن باعتباره أكثر الناس علما بالوضع. بيد ان المعتمد (ولسن) ـ أجاب فلبي ـ لا يعرف الا بما يخبره به الملك حسين، كما لا يمكن الاعتماد على أقوال النازحين الذين لم يروا ـ برأيه ـ أحدا من الوهابيين، واكد فلبي ثقته من جديد بتوقف الوهابيين عن تقدمهم بعد انتصارهم الأخير، وان لابن سعود سيطرته على رجاله وهو أعبد من ان يخطئ مع بريطانيا بمهاجمة الحجاز.

لكن (كرزن) ظل مصرا على اعتقاده السابق ولم يقتنع بما ذهب إليه فلبي وأعرب عن قلقه في احتمال وصول الوهابيين ابواب مكة او جدة، في ضوء المعلومات التي كانت تصله.

وهنا يفصح فلبي عن غايته بصراحة لإيقاف التقدم الوهابي، وذلك بقلب القرار الذي اتخذ في المؤتمر السابق، ان الموافقة عل سيطرة عبد العزيز بن سعود لا على الخرمة فحسب بل تربة أيضا والتي سوف لن يتنازل عنها بعد ان تمكن من السيطرة عليها.

وتحمل فلبي ـ ولمعرفة بأهداف ابن سعود ـ مسؤولية وقف الهجوم الوهابي على الحجاز، فيما اذا استجيب لهذه المطالب. ولم يمانع كررزن هذه المرة كما يبدو، ووافق على اقتراح فلبي وذهابه لمعالجة الوضع.

إلا ان الموافقة كانت مبدأية على ما يظهر حيث اتضح بعدها ان وزارة الخارجية ـ وعند وصول فلبي للقاهرة ـ أصدرت أوامرها للجنرال (اللنبي) المندوب السامي في القاهرة لإرسال ست طائرات الى جدة لاستخدامها وقت الحاجة، في حين أصدرت أوامرها الى الكولونيل ارنولد ولسن في بغداد بقطع المنحات المالية الشهرية عن عبد العزيز بن سعود.

فيما أصدرت أوامرها في نفس الوقت بإنذار عبد العزيز بن سعود وبالتوقف عن الحرب وقد أبلغ المعتمد البريطاني في جدة (الكولونيل ولسن) هذا الانذار الى عبد الله سراج بعد يومين من اجتماعهما سالف الذكر، وهو على هيئة رسالة موجهة من الحكومة البريطانية إلى ابن سعود جاء فيه:
"ترجوكم حكومة جلالة الملك ان تعودوا الى نجد عند وصول هذا الكتاب الى يدكم وتتركوا تربة والخرمة منطقة حرة وغير مملوكة لأحد حتى عقد الصلح وتحديد الحدود، واذا لم تعودوا فإن حكومة بريطانيا تعد كل اتفاق بينكم وبينها ملغى وتتخذ ما يلزم من التدابير ضد حركاتكم العدائية، وتأسف كل الأسف لما حصل بين أصدقائها وكانت ترجو ألا يقع".

فتخلص الهاشميون من الاندحار الكامل، إذ يبدو ان عبد العزيز بن سعود كان يعد العدة لمهاجمة الطائف التي لم يبق بينها وبين الخرمة سوى مسافة قليلة، وهذا ما دفع الحسين الى تحصينها عقب الهزيمة مباشرة وسلم قيادتها لأحد قادته العسكريين ولعل هذا ما يقلل من اهمية ادعاء(فلبي) الذي اكد فيه على عدم عقب عبد العزيز بن سعود للقوات الحجازية، ومن أنه امر قواده باتخاذ موقف دفاعي.

لقد كان من الممكن بعد الاجراءات البريطانية الأخيرة ان تتلاشى أهمية الاسراع في المهمة التي اوكلت للمستر فلبي في المؤتمر الأخير.

إلا ان وزارة الخارجية عادت وأمرته من جديد في السفر الى الرياض عن طريق جدة، أملا في إيجاد تسوية ما بين الطرفين. بيد ان الحسين أفشل مهمة (فلبي)، ورفض سفره عبر الأراضي الحجازية رفضا رغم مرور ثلاثة أيام على التفاوض بهذا الشأن، فاضطر حينها الى ترك الأمر والسفر الى لندن.

ظل الحسين يعاني مرارة الهزيمة وانعكس ذلك في شكواه التي أخذ يبثها للمسؤولين الإنكليز، خصوصا وإن عبد العزيز بن سعود استمر على دعمه وتأليبه لقبائل عتيبة، كما يظهر من بعض الرسائل التي كان يبعثها السلطان لهذه القبائل، وذهب الحسين مستنكرا التجاوزات الأخيرة بما في ذلك استحواذه على تربة والذي يعد برهانا على هذه التجاوزات.

وراح وأعلن عن رغبته في التنازل عن العرش كحل يرتأيه لهذه المشاكل، بعد ان ادعى استعداده للتنازل عن البلاد لسلطان نجد طالما ان ما يهدف اليه هو ضم مناطق إضافية من الحجاز الى بلاده.

كان بإمكان بريطانيا إيقاف مثل هذه العمليات الحربية بسهولة قبل قيامها، لكنها لم تتخذ أي إجراء رادع عبد العزيز بن سعود وما أتخذته لا يعدو اكثر من كونه بعض المساعي الدبلوماسية وضمن الحدود التي تسمح بها أهداف السياسة البريطانية.

وموقفها الأخير من النزاع إنما كان ضمن الأهداف البعيدة.
فقد انتهت الحرب وتوجه العرب ـ ان لم نقل الحسين ـ بأنظارهم الى الحلفاء للوفاء بالتزاماتهم لتحقيق الدولة العربية.

ولما كان الحسين الناطق الرسمي على الأقل باسم العرب، والذي من خلاله تم الاتفاق على هذه الوعود، فإن من المنطقي جدا أن تسدد بريطانيا ضربتها الموجعة لحليفها الهاشمي الذي اخذ يثير إزعاجها فيما يردده من الوعود المنتظرة عند نهاية الحرب.

وحسبه أن الضربة التي تلقاها كانت كافية للحد من غروره بعد ان واجه شبح الزوال حتى من الحجاز، أثناء الهجوم الوهابي الأخير.

وهذا مايفسرنزوله عن الإرادة البريطانية وطلب مساعدتها، الأمر الذي كانت تؤكد عليه الأخيرة ضمن سياستها التقليدية في ربط حلفائها الصغار وجردهم من فلكها بحكم الحاجة ووضعهم أمام واقع الاعتماد الكلي على قوتها، وهي أمور تزداد وضوحاً بسير البحث.

ولم تكتف بريطانيا بهذا الحد وإنما واصلت سياستها في مجال آخر، فمن الواضح أن الحسين، مع علم بريطانيا، سيعمد ـ ولمنع تكرر مثل هذه الهزيمة ـ إلى تقوية قدراته العسكرية، وما يترتب على ذلك من الاستعدادات والتجنيد.

الأمر الذي يبرر حيطتها (بريطانيا) أو خشيتها من خروج الحسين عن الدائرة التي رسمتها له، ومن هنا جاءت إجراءاتها بتخفيض المساعدات الشهرية منذ هذه الفترة.

ونعيد هنا ما أشرنا إليه سلفا عما كان يحتويه شعار مصلحة الامبراطورية من التناقضات القائمة في السياسة البريطانية عند الضرورة، والذي في ضوئه يمكن تبرير التفاهم الضمني المؤقت ـ اذا جاز التعبير ـ الذي بدأ بين شقي بغداد ـ القاهرة اثناء النزاع الأخير.

هذا اذا تجاهلنا شبه التنازلات التي أبدتها الأخيرة (التابعة في سياستها الى وزارة الخارجية)، كما تبين لنا من قناعة كررزن أحيانا بتسوية حربية بين نجد والحجاز، أو الموافقة على توسط فلبي، ثم تجاهلها لحقيقة هامة كشف عنها فلبي شخصياً، والمتعلقة بالمنحة المالية المقررة لابن سعود، فقد تجاهل أرنولد ولسن (A. Wilson) الحاكم السياسي في بغداد وأحد موظفي حكومة الهند، العقوبة التي فرضتها الحكومة البريطانية على عبد العزيز بن سعود بقطعها لمنحه المالية، ولم ينفذ الأوامر الصادرة اليه وإنما راح "ووضع التبليغ جيبه ونسي كل شيء عنها".

وقد صارح فلبي وزارة الهند بهذه الحقيقة ـ في الاجتماع الذي عقد برئاسة وزيرها (أدوين مونتاكو) (A. Montago) ـ وتحدى ـ ما أدلى به أحد كبار موظفي الخزينة من أن المنحة المالية المخصصة لابن سعود كانت قد قطعت منذ مايس 1919ـ، وأكد استمرارها رغم صدور الأوامر بذلك.

وزيادة في التأكيد، وإجابة على استفسار اللجنة المالية، وجه فلبي اللجنة للإستفسار من الأمير فيصل ابن عبد العزيز بن سعود الذي كان يزور لندن هذه الفترة.

ومع ذلك فإن الحكومة البريطانية لم تتخذ أي إجراء مضاد لابن سعود وقررت "بحكمه وتعقل ان لا توقظ الكلاب النائمة وأن تستمر على الدفع لضمان سلامة الحسين...".

إن الحكومة البريطانية حين وقفت موقف المتفرج من الحرب الأخيرة فإنها ـ كما أكدنا سابقا ـ كانت تعارض مبدئياً التخلي نهائياً عن الحسين وبمثل هذه السرعة، اذ بالإضافة الى الاسباب المتقدمة فإن تخليها عنه في محنته قد يفقد من سمعتها ويلحق الضرر بأي مكسب يمكنها الحصول عليه، كما كان على بريطانيا أن تدرك أن الجوم المتأزم وهياج الوهابية ـ الذي أخذ يمتد فيما بعد الى سورية وفلسطين والعراق، فضلا عن صفتها الهرطقية لدى بعض الاوساط الإسلامية ـ قد يسبب خطر انتعاش فكرة الجامعة الاسلامية، والتي من الصعوبة خنقها في أقطار الهلال الخصيب.

على ان ذلك لا يمنع من القول ان السياسة البريطانية أخذت تستنفذ حاجاتها من الحسين يوما بعد آخر، وشرعت تفكر في إهماله.
ورغم أنها لم تباشر ذلك فعلياًَ إلا ان اصواتا بريطانية، وبالذات حكومة الهند، اخذت تطالب بترجيح كفة عبد العزيز بن سعود وعدم معاداته بسبب الحسين، والدعوة لتنحيته عن الحكم لما يوفره من تسوية للموقف، وحسم لقضايا المشرق العربي بما يخدم المصالح البريطانية.

ومهما يكن فإن بريطانيا وعندما لا تجد في الحسين ما يستوجب الاهتمام المباشر، فإنها ترى من الضروري على الأقل الاهتمام بأمر الاعضاء الآخرين المنتسبين لبيته، خاصة وإن المصالح البريطانية تقضي أن لا تبقى أمور العرب تحت سيطرة بيت واحد.

فمع هذه التحولات، أصبح بقاء الحسين قلقا يحتفظ بوجوده على الحماية البريطانية المشكوك فيها، كحليف بات غير مجد إلا لفترة قصيرة لتسليط مرشحها الجديد ابن سعود "الذي سينقض بدوره على التفاحة في اللحظة المناسبة عندما يبدأ ساقها بالذبول".
أحدث أقدم

نموذج الاتصال