الطرق الصوفية بالسنغال.. مرور الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني بموريتانيا. مجموعة قواعد للرياضة الروحية تحتوي على أذكار وأوراد وسلوك خاص، وضعها كبار زعمائها

إذا كانت ظاهرة التشيخ قديمة قدم الإسلام نفسه في السنغال، فإنَّ الطرق الصوفية تعد جديدة نسبياًّ، ويبدو أنها ظهرت في أطراف الصحراء الكبرى أثناء مرور الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني بموريتانيا، وهو في طريقه إلى نيجيريا، في القرن الخامس عشر الميلادي، حيث أخذ عنه الطريقة القادرية بعض أعيان قبيلة "كنت" ومن ثم بدأت تنتشر في غربي أفريقيا.

والطرق الصوفية عبارة عن مجموعة قواعد للرياضة الروحية، تحتوي على أذكار وأوراد وسلوك خاص، وضعها كبار زعمائها، الذين تألّق نجمهم وذاع صيتهم لأتباعهم المتعلقين بأهدابهم، وممن يستهويهم التصوف دون أن يكون لديهم استعداد كامل للغوص في خضمِّه.

وقد ازدادت أهمية الطرق الصوفية في السنغال من بداية القرن التاسع عشر لتبلغ أوجها مع بداية هذا القرن، وتضافرت عوامل لصعودها ولشهرة كبار قادتها.

كانت العائلات الإسلامية الكبيرة محل احترام، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، حتى في ظل النظام البائد "تيدو" وكانت بيوتهم مأوى المستضعفين حين تتصاعد قسوة نظام الأرواحيين.

وعلى إثر تلاشي ذلك العهد وجد الناس البديل في زعماء الطرق الصوفية حيث التف حولهم صنفان من المواطنين:

1- أولئك الشامتون بسقوط نظام الطغيان، ويشكل هؤلاء الأغلبية الساحقة، يقول "مارتي": إن حقيقة مزايا الإسلام ونزاهة الشيوخ حجبت السمعة التي كان يتمتع بها زعماء سياسيون في السنغال القديم.

خصوصاً وأن هؤلاء أصبحوا -بعد انهزامهم وخضوعهم للاستعمار- موضع إهانة واحتقار من الشعب، بينما لم يدخل الشيوخ في مساومات مهينة مع المستعمر، ولذلك ظلوا رمزًا للمقاومة الوطنية يعني أنه كلما ضعفت الأرواحية، ازداد نفوذ الإسلام، وبالتالي قوة الشيوخ.

2- طائفة "تيدو" نفسها وجدت في الالتفاف حول الشيوخ متنفساً لمرارة انهزامها واندحارها أمام  الاستعمار وردّ فعل الاحتلال الأجنبي.

يضاف إلى ذلك تفكك المجتمع التقليدي بفعل ظهور التعامل في ميدان التجارة بالقيم - وسهولة المواصلات وتنقلات الفلاحين الدائبة من قرية إلى قرية بغرض زراعة القول السوداني؛ إذ غيّر ذلك كلّه طبيعة العلاقات بين الأفراد.

وقد استفاد الشيوخ والطرق والصوفية في مناطق خاصة في السنغال من هذا الوضع الجديد لكونهم القوة الوحيدة الكفيلة باستقطاب العناصر المختلفة.

كان الواحد - بعد انفلاته من سلطة العائلة ومن نفوذ مقدم القرية، وتحرره من الارتباطات العشائرية واختفاء استبداد "تيدو" - مضطراً إلى البحث عن بديل فيجده لدى التنظيمات الطرقية.

ولعلّ أهم عامل ساعد على تألق نجم الطرق الصوفية وزعمائها يكمن في تطور فلاحة الفول السوداني التي أدت إلى شيوع اقتصاد مبني على تبادل وسط وغربي السنغال، وهي المناطق نفسها التي عرفت قبل غيرها تطوراً في الإدارة ونموًّا في العمران، بينما ظلت المناطق الأخرى من البلاد منكمشة على نفسها.

وهذه الحركة التجارية والعمرانية والإدارية رافقت بروز رؤىً جديدة في الحياة، وولدت رغبة جامحة لدى العامة في وجود زعامة دينية تجسم أحلامهم، وتحل محل الزعامات البالية، وزاد من حظ الشيوخ في السيطرة على العامة أنهم لم يطمعوا في منصب كان "تيدو" يعتلونه.

وبالمقابل كرّسوا - بالأصح بعض منهم - جهودهم على الأعمال الإنتاجية، وعلى وجه التحديد إنتاج الفول السوداني حتى أصبحوا ذوي مراكز اقتصادية لا يستهان بها؛ بجانب زعامتهم الروحية، من أجل ذلك توجّه آلاف الناس إليهم لقوتهم المالية والاجتماعية، فحمل ذلك الإدارة الاستعمارية على خطب ودّهم والاستعانة بهم.

وعندما استشعرت الزعامة الطرقية ثقلها الاقتصادي ونفوذها السياسي لم تتوان من الاستفادة منها لحماية مصالحها وازداد مع الأيام نفوذها وتدخلها في الشؤون العامة - إدارية وسياسية - خصوصاً وأن وساطتهم تلتمسها فئات مختلفة من الشعب.

ويلاحظ أن طلّ كبار زعماء الطرق الصوفية موجودون في المناطق التي بدأ وتطور فيها إنتاج الفول السوداني، مما يؤيد رأينا أن نمو وتطور زراعة هذه الغلة ساهم إلى حد بعيد في شهرة هذا الشيخ أو ذاك، فـ "فوتا" التي ينتسب إليها عدد من زعماء الطرق لم تعرف شيخاً واحداً له شهرة الشيوخ الذين ظهروا في مناطق إنتاج الفول السوداني.

ونتيجة لذلك فقد لا نحيد عن الصواب إذا ذهبنا إلى القول بأن هناك علاقة سببية بين نفوذ وشهرة  شيخ وبين الموقع الجغرافي والوسط الاجتماعي والأصل القبلي الذي نبع منه.

على أنّ عدوى ظاهرة الزعامة الطرقية وتسمياتها المختلفة تسربت إلى المناطق الأخرى بل المجموعات التي لم تعرف إلاّ حديثاً النزعات الانتمائية إلى طرق أصبحت لها ألقاب طرقية.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال