الحضارة الإسلامية هي إحدى الحضارات المتميزة التي لعبت دوراً هاماً في تاريخ البشرية.
كان ذلك بعد أن هضمت وتمثلت المنجزات الفكرية والمادية للحضارات السابقة عليها، وعملت على صقلها وبلورتها وإغنائها، فطورتها وزادت عليها، وقدمت للحضارة الإنسانية مادة غنية عملت على دفع عملية التطور الفكري والمادي خطوات واسعة نحو الارتقاء في معارج التقدم الحضاري.
وقد نشأت الحضارة الإسلامية مع بزوغ فجر الإسلام في القرن السابع الميلادي، وبدأت في الانتشار فامتدت من حدود الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي وإسبانيا وصقلية غرباً، ومن بحر العرب وبلاد النوبة جنوباً، حتى جبال القفقاس شمالاً.
ولقد قامت الحضارة الإسلامية على مبادئ الدين الإسلامي، الذي كان نقطة تحول حضاري في تاريخ الأمة العربية، بل وفي تاريخ الأمم الأخرى، فقد سطعت شمس الحضارة الإسلامية على مسرح التاريخ الإنساني برمته، في عصر كان يخيم فيه الظلم والظلام بكل قسوتهما وغلظتهما وبشاعتهما على السواد الأعظم من أبناء الأمم الأخرى، فكان الإسلام ثورةً على المفاهيم والمعتقدات البالية، حرباً على الهبوط الأخلاقي والاجتماعي، منظماً للحياة الاقتصادية والسياسية، ضابطاً لسلوك الأفراد، داعياً للعلم والمعرفة، ناهياً عن الغلو والتعصب المقيتين.
فكان من ثمراته أن أنتج حضارة جمعت بين الدين والدنيا، وبين الروح والمادة بلا إفراط أو تفريط، وكانت الوسطية من أهم سمات هذه الحضارة والتي آمن بها أبناؤها كمنهج فكري، وجسدوه سلوكاً عملياً في شتى مناحي حياتهم وخصوصاً في طور نموها وازدهارها.
ولعل هذا مما جعل الحضارة الإسلامية محط أنظار الكثير من الباحثين، سواء أكانوا من أبناء هذه الحضارة أم من أبناء حضارات أخرى، حيث تم تناولها بالدراسة والبحث من قبل مفكرين ومؤرخين وباحثين من اتجاهات فكرية متعددة، فأتت هذه الدراسات بآراء متنوعة ومختلفة، وصل بعضها إلى حد التناقض، حيث قرأ كل منهم هذه الحضارة من موقعه، وفي ضوء الأيديولوجيا التي يعتنقها، فوقع الكثير من دارسيها، ولا سيما من أبنائها بين ضربين من المواقف، رغم التدرج قرباً وبعداً بينهما.
فقد ذهب فريق نحو تعظيم الذات ونفي الآخر، فبقي أسيراً لألق الماضي وسحر بريقه، وذهب الفريق الثاني إلى تضخيم الآخر وتقزيم الذات، بعد أن رأى ما وصلت إليه الحضارة الغربية الحديثة، وما آل إليه واقعنا اليوم. أما المستشرقون فقد وقع معظمهم تحت تأثير فكرة مركزية الذات، انطلاقاً من فكرة وحدة الحضارة التي تختزل حضارات العالم بأسره، وتجعلها روافد تصب في نهر الحضارة الغربية.
وكان من بين هؤلاء الباحثين الذين درسوا الحضارة الإسلامية، المؤرخ والمفكر" أرنولد توينبي" صاحب نظرية " التحدي والاستجابة "، حيث عكف توينبي على دراسة الحضارات قديمها وحديثها، من حيث نشوؤها وتطورها، وبحث في أسباب انهيارها وانحلالها، وناقش الأسس التي ترتكز عليها والعقبات التي تعيق تقدمها والمشكلات والتحديات التي تواجهها، وقدم حلولاً لإنقاذها من مصير الفناء الذي زعم بعض الفلاسفة بأنه أمر محتوم لا مفر منه.
كان ذلك بعد أن استخلص توينبي آراءه الفلسفية في موضوع الحضارات من مادة تاريخية غنية، تعامل معها بعمق وروية، وبشيء من الحياد والموضوعية. إذ أنه لم يبرأ تماماً من الانحياز للحضارة الغربية في كثير من الأحيان.
ولكنه بالمقابل قدم منهجاً متكاملاً في دراسة الحضارات من خلال نظريته " التحدي والاستجابة " التي درس في ضوئها جميع الحضارات الإنسانية ومنها الحضارة الإسلامية. فما هو مفهومه للحضارة؟ وما هي المرتكزات الأساسية في منهجه التاريخي؟
رأى توينبي في السمة الدينية أهم صفة يمكن أن توصف بها الحضارة، لذلك نجده يسمي الحضارة باسم الدين الذي نشأت في ظلاله أو بالأحرى كانت إحدى ثمراته، لأن الدين برأيه يشكل الاستجابة الناجحة للروح على تحد خارجي، ينتقل بفضلها مجتمع ما من حالة الركود إلى حالة الحركة.
ولما كانت نظرية "التحدي والاستجابة" هي المفتاح الأساسي لدى توينبي في دراسة التاريخ ـ الذي يعتبره سلسلة من التحديات والاستجابات ـ لذلك فقد اعتبر أن حركة التاريخ تسير على إيقاع التحدي والاستجابة.
وما هذه التحديات إلا ظروف طبيعية قاسية أو ضغوط بشرية خارجية، وعلى إحدى هذه التحديات توجد استجابة ناجحة تقوم بها الأقلية المبدعة، بوصفها الفئة القادرة على عملية الخلق والإبداع وصنع الحضارات، ولذلك اعتبر توينبي أن الظروف الصعبة ـ لا السهلة ـ هي التي تستثير في الأمم قيام الحضارات، وأن الفئة المبدعة في أي مجتمع من المجتمعات هي الفئة الوحيدة التي تضطلع بمهمة صنع الحضارات، وأما عامة الناس فما عليهم إلا اقتفاء أثر المبدعين ومحاكاتهم.
فالتحدي إذاً هو نقطة البدء في عملية التحول الحضاري، فعندما ينتقل التحدي الخارجي إلى انفعال داخلي، يحدث الإحساس بالمشكلة فتنتقل بذلك من مجال المادة إلى مجال الروح، التي تعمل بدورها على رفض ما هو قائم وتذليله وفق متطلباتها وتطلعاتها الذاتية.
وكما ربط توينبي بين الفئة المبدعة ونشأة الحضارات رباط العلة بالمعلول، فقد ربط أيضاً انهيار الحضارات بهذه الفئة، وجعلها المسؤولة عن انهيارها حينما تفقد هذه الفئة مقومات الإبداع وتتحول إلى فئة مستبدة عاجزة عن الخلق والابتكار.
كما اعتقد توينبي أن الحضارة هي الوحدة الحقيقية لدراسة التاريخ، ويعتبر هذا المبدأ بمثابة حجر الأساس في منهجه التاريخي، ويعني هذا المبدأ أن الحضارة بأسرها، هي الوحدة الأساسية للدراسة التاريخية، ولذلك انتقد توينبي المؤرخين الذين اتخذوا من الأمم أو الدول القومية مجالاً لدراساتهم التاريخية.
وبناءً على ما سبق نتساءل: هل القوانين التاريخية لها صفة الحتمية بحيث أن ما ينطبق على حضارة ما في أطوارها المختلفة يجب أن ينطبق على جميع الحضارات الأخرى؟ وهل الحضارة الإسلامية هي نسخة طبق الأصل عن الحضارات الأخرى؟ بحيث يغدو من الممكن أن نجعل من دراسة الحضارات الأخرى دليلاً ومرشداً، نقتبس منه تصوراتنا لمستقبل الحضارة الإسلامية وحلاً لأزماتها بصورة حتمية.
وللإجابة عن هذه الأسئلة نقول: إن الباحث في الحضارة الإسلامية سيجد نفسه أمام حضارة لها خصوصيتها الذاتية وهويتها المتميزة، كما أن لها نقاطاً تتقاطع بها مع الحضارات الأخرى. وهذا ليس شأن الحضارة الإسلامية وحسب، بل إن لكل حضارة هويتها الخاصة التي تميزها عن غيرها من الحضارات. ولذلك نجد أنه من الضرورة بمكان معرفة نقاط التقاطع بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى من جهة، ومعرفة خصوصية الحضارة الإسلامية وما تتميز به من جهة أخرى.
من هنا تبدو الحاجة ملحة لتقديم دراسات منهجية متعددة، تستهدف الكشف عن الجذور التاريخية للحضارة الإسلامية، لمعرفة كيف صاغت وكونت الأحداث التاريخية الماضية العقل العربي والإسلامي، حتى وصل إلى ما هو عليه اليوم، تلك الأحداث التي كان من نتائجها رؤية معرفية خاصة للكون والطبيعة والإنسان والمجتمع، وهي تجتمع وتفترق مع رؤى أخرى شكلتها وصنعتها ظروف حضارية مختلفة لحضارات أخرى.
فإذا استطعنا أن نفهم الأسس التي تقوم عليها الحضارات والمقومات التي تجعلها تنمو وتزدهر، والعوامل التي تعيق تقدمها، والتحديات التي تواجهها، والأسباب التي تعمل على انهيارها وانحلالها بشكل عام، ثم فهمنا خصوصية الحضارة الإسلامية وهويتها الذاتية بشكل خاص، ومن ثم نظرنا إلى حضارتنا من زوايا متعددة نظرة موضوعية جادة، فإن ذلك من شأنه أن يساعدنا على تكوين صورة صحيحة متكاملة، تعيننا على معرفة أعمق لطبيعة ماضينا، وفهم أدق لحاضرنا، ورسم تصور أفضل وأشمل لمستقبلنا.
وعند هذه اللحظة نستطيع أن نواجه أزماتنا ومشكلاتنا الحضارية الراهنة، فنعمل في ضوء ذلك على تقويم ما أعوج منها وتصحيحه، وبذلك نسترد الشعور (بأناقة الأسلوب) الذي اعتبره توينبي الحالة الشعورية للأمة المبدعة؛ وإذا ما استردينا هذا الشعور الذي نفتقده اليوم والذي كان يشعر به أسلافنا، وهم يبنون صروح هذه الحضارة العظيمة، عندها نستطيع الخروج من حالة الركود (المنفعل) إلى حالة الحركة (الفاعلة) في سبيل استعادة دورنا الحضاري والريادي في بناء الحضارات.
وإذا كان الحال كذلك، فقد أضحى لزاماً علينا بوصفنا أبناء للحضارة الإسلامية، إذا ما أردنا النهوض واستعادة مكانتنا الحضارية أن نعيد قراءة حضارتنا وفق نظرة أكثر موضوعية، نحلل من خلالها أحداثها، ونستقرئ جزئياتها، فنحدد كل ما يعتريها من نقائص وسلبيات فنتجاوزه، ونفرز كل ما تتمتع به من إيجابيات فنقره ونتمسك به ونبني عليه؛ علنا نصل بذلك إلى تقديم بعض الحلول الممكنة للخروج من حالة الركود إلى حالة الحركة، ومن ثم تجاوز أزماتنا الراهنة.
وذلك بعد أن تتكامل رؤيتنا لهذه الحضارة من زواياها المتعددة، ومن بين هذه الزوايا، أن نرى أنفسنا بمرآة الذات، وكذلك أن نرى أنفسنا بمرآة الآخر، ووفق منظوره وخاصةً إذا كان هذا الآخر يقترب إلى حد ما من الموضوعية في طرحه والنزاهة والحياد في تحليله. وهذا ما وجدته في "أرنو لد توينبي" المؤرخ والفيلسوف، وهذا ما أقره الكثير من الباحثين الذين قرؤوا له وكتبوا عنه.
كان ذلك بعد أن هضمت وتمثلت المنجزات الفكرية والمادية للحضارات السابقة عليها، وعملت على صقلها وبلورتها وإغنائها، فطورتها وزادت عليها، وقدمت للحضارة الإنسانية مادة غنية عملت على دفع عملية التطور الفكري والمادي خطوات واسعة نحو الارتقاء في معارج التقدم الحضاري.
وقد نشأت الحضارة الإسلامية مع بزوغ فجر الإسلام في القرن السابع الميلادي، وبدأت في الانتشار فامتدت من حدود الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي وإسبانيا وصقلية غرباً، ومن بحر العرب وبلاد النوبة جنوباً، حتى جبال القفقاس شمالاً.
ولقد قامت الحضارة الإسلامية على مبادئ الدين الإسلامي، الذي كان نقطة تحول حضاري في تاريخ الأمة العربية، بل وفي تاريخ الأمم الأخرى، فقد سطعت شمس الحضارة الإسلامية على مسرح التاريخ الإنساني برمته، في عصر كان يخيم فيه الظلم والظلام بكل قسوتهما وغلظتهما وبشاعتهما على السواد الأعظم من أبناء الأمم الأخرى، فكان الإسلام ثورةً على المفاهيم والمعتقدات البالية، حرباً على الهبوط الأخلاقي والاجتماعي، منظماً للحياة الاقتصادية والسياسية، ضابطاً لسلوك الأفراد، داعياً للعلم والمعرفة، ناهياً عن الغلو والتعصب المقيتين.
فكان من ثمراته أن أنتج حضارة جمعت بين الدين والدنيا، وبين الروح والمادة بلا إفراط أو تفريط، وكانت الوسطية من أهم سمات هذه الحضارة والتي آمن بها أبناؤها كمنهج فكري، وجسدوه سلوكاً عملياً في شتى مناحي حياتهم وخصوصاً في طور نموها وازدهارها.
ولعل هذا مما جعل الحضارة الإسلامية محط أنظار الكثير من الباحثين، سواء أكانوا من أبناء هذه الحضارة أم من أبناء حضارات أخرى، حيث تم تناولها بالدراسة والبحث من قبل مفكرين ومؤرخين وباحثين من اتجاهات فكرية متعددة، فأتت هذه الدراسات بآراء متنوعة ومختلفة، وصل بعضها إلى حد التناقض، حيث قرأ كل منهم هذه الحضارة من موقعه، وفي ضوء الأيديولوجيا التي يعتنقها، فوقع الكثير من دارسيها، ولا سيما من أبنائها بين ضربين من المواقف، رغم التدرج قرباً وبعداً بينهما.
فقد ذهب فريق نحو تعظيم الذات ونفي الآخر، فبقي أسيراً لألق الماضي وسحر بريقه، وذهب الفريق الثاني إلى تضخيم الآخر وتقزيم الذات، بعد أن رأى ما وصلت إليه الحضارة الغربية الحديثة، وما آل إليه واقعنا اليوم. أما المستشرقون فقد وقع معظمهم تحت تأثير فكرة مركزية الذات، انطلاقاً من فكرة وحدة الحضارة التي تختزل حضارات العالم بأسره، وتجعلها روافد تصب في نهر الحضارة الغربية.
وكان من بين هؤلاء الباحثين الذين درسوا الحضارة الإسلامية، المؤرخ والمفكر" أرنولد توينبي" صاحب نظرية " التحدي والاستجابة "، حيث عكف توينبي على دراسة الحضارات قديمها وحديثها، من حيث نشوؤها وتطورها، وبحث في أسباب انهيارها وانحلالها، وناقش الأسس التي ترتكز عليها والعقبات التي تعيق تقدمها والمشكلات والتحديات التي تواجهها، وقدم حلولاً لإنقاذها من مصير الفناء الذي زعم بعض الفلاسفة بأنه أمر محتوم لا مفر منه.
كان ذلك بعد أن استخلص توينبي آراءه الفلسفية في موضوع الحضارات من مادة تاريخية غنية، تعامل معها بعمق وروية، وبشيء من الحياد والموضوعية. إذ أنه لم يبرأ تماماً من الانحياز للحضارة الغربية في كثير من الأحيان.
ولكنه بالمقابل قدم منهجاً متكاملاً في دراسة الحضارات من خلال نظريته " التحدي والاستجابة " التي درس في ضوئها جميع الحضارات الإنسانية ومنها الحضارة الإسلامية. فما هو مفهومه للحضارة؟ وما هي المرتكزات الأساسية في منهجه التاريخي؟
رأى توينبي في السمة الدينية أهم صفة يمكن أن توصف بها الحضارة، لذلك نجده يسمي الحضارة باسم الدين الذي نشأت في ظلاله أو بالأحرى كانت إحدى ثمراته، لأن الدين برأيه يشكل الاستجابة الناجحة للروح على تحد خارجي، ينتقل بفضلها مجتمع ما من حالة الركود إلى حالة الحركة.
ولما كانت نظرية "التحدي والاستجابة" هي المفتاح الأساسي لدى توينبي في دراسة التاريخ ـ الذي يعتبره سلسلة من التحديات والاستجابات ـ لذلك فقد اعتبر أن حركة التاريخ تسير على إيقاع التحدي والاستجابة.
وما هذه التحديات إلا ظروف طبيعية قاسية أو ضغوط بشرية خارجية، وعلى إحدى هذه التحديات توجد استجابة ناجحة تقوم بها الأقلية المبدعة، بوصفها الفئة القادرة على عملية الخلق والإبداع وصنع الحضارات، ولذلك اعتبر توينبي أن الظروف الصعبة ـ لا السهلة ـ هي التي تستثير في الأمم قيام الحضارات، وأن الفئة المبدعة في أي مجتمع من المجتمعات هي الفئة الوحيدة التي تضطلع بمهمة صنع الحضارات، وأما عامة الناس فما عليهم إلا اقتفاء أثر المبدعين ومحاكاتهم.
فالتحدي إذاً هو نقطة البدء في عملية التحول الحضاري، فعندما ينتقل التحدي الخارجي إلى انفعال داخلي، يحدث الإحساس بالمشكلة فتنتقل بذلك من مجال المادة إلى مجال الروح، التي تعمل بدورها على رفض ما هو قائم وتذليله وفق متطلباتها وتطلعاتها الذاتية.
وكما ربط توينبي بين الفئة المبدعة ونشأة الحضارات رباط العلة بالمعلول، فقد ربط أيضاً انهيار الحضارات بهذه الفئة، وجعلها المسؤولة عن انهيارها حينما تفقد هذه الفئة مقومات الإبداع وتتحول إلى فئة مستبدة عاجزة عن الخلق والابتكار.
كما اعتقد توينبي أن الحضارة هي الوحدة الحقيقية لدراسة التاريخ، ويعتبر هذا المبدأ بمثابة حجر الأساس في منهجه التاريخي، ويعني هذا المبدأ أن الحضارة بأسرها، هي الوحدة الأساسية للدراسة التاريخية، ولذلك انتقد توينبي المؤرخين الذين اتخذوا من الأمم أو الدول القومية مجالاً لدراساتهم التاريخية.
وبناءً على ما سبق نتساءل: هل القوانين التاريخية لها صفة الحتمية بحيث أن ما ينطبق على حضارة ما في أطوارها المختلفة يجب أن ينطبق على جميع الحضارات الأخرى؟ وهل الحضارة الإسلامية هي نسخة طبق الأصل عن الحضارات الأخرى؟ بحيث يغدو من الممكن أن نجعل من دراسة الحضارات الأخرى دليلاً ومرشداً، نقتبس منه تصوراتنا لمستقبل الحضارة الإسلامية وحلاً لأزماتها بصورة حتمية.
وللإجابة عن هذه الأسئلة نقول: إن الباحث في الحضارة الإسلامية سيجد نفسه أمام حضارة لها خصوصيتها الذاتية وهويتها المتميزة، كما أن لها نقاطاً تتقاطع بها مع الحضارات الأخرى. وهذا ليس شأن الحضارة الإسلامية وحسب، بل إن لكل حضارة هويتها الخاصة التي تميزها عن غيرها من الحضارات. ولذلك نجد أنه من الضرورة بمكان معرفة نقاط التقاطع بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى من جهة، ومعرفة خصوصية الحضارة الإسلامية وما تتميز به من جهة أخرى.
من هنا تبدو الحاجة ملحة لتقديم دراسات منهجية متعددة، تستهدف الكشف عن الجذور التاريخية للحضارة الإسلامية، لمعرفة كيف صاغت وكونت الأحداث التاريخية الماضية العقل العربي والإسلامي، حتى وصل إلى ما هو عليه اليوم، تلك الأحداث التي كان من نتائجها رؤية معرفية خاصة للكون والطبيعة والإنسان والمجتمع، وهي تجتمع وتفترق مع رؤى أخرى شكلتها وصنعتها ظروف حضارية مختلفة لحضارات أخرى.
فإذا استطعنا أن نفهم الأسس التي تقوم عليها الحضارات والمقومات التي تجعلها تنمو وتزدهر، والعوامل التي تعيق تقدمها، والتحديات التي تواجهها، والأسباب التي تعمل على انهيارها وانحلالها بشكل عام، ثم فهمنا خصوصية الحضارة الإسلامية وهويتها الذاتية بشكل خاص، ومن ثم نظرنا إلى حضارتنا من زوايا متعددة نظرة موضوعية جادة، فإن ذلك من شأنه أن يساعدنا على تكوين صورة صحيحة متكاملة، تعيننا على معرفة أعمق لطبيعة ماضينا، وفهم أدق لحاضرنا، ورسم تصور أفضل وأشمل لمستقبلنا.
وعند هذه اللحظة نستطيع أن نواجه أزماتنا ومشكلاتنا الحضارية الراهنة، فنعمل في ضوء ذلك على تقويم ما أعوج منها وتصحيحه، وبذلك نسترد الشعور (بأناقة الأسلوب) الذي اعتبره توينبي الحالة الشعورية للأمة المبدعة؛ وإذا ما استردينا هذا الشعور الذي نفتقده اليوم والذي كان يشعر به أسلافنا، وهم يبنون صروح هذه الحضارة العظيمة، عندها نستطيع الخروج من حالة الركود (المنفعل) إلى حالة الحركة (الفاعلة) في سبيل استعادة دورنا الحضاري والريادي في بناء الحضارات.
وإذا كان الحال كذلك، فقد أضحى لزاماً علينا بوصفنا أبناء للحضارة الإسلامية، إذا ما أردنا النهوض واستعادة مكانتنا الحضارية أن نعيد قراءة حضارتنا وفق نظرة أكثر موضوعية، نحلل من خلالها أحداثها، ونستقرئ جزئياتها، فنحدد كل ما يعتريها من نقائص وسلبيات فنتجاوزه، ونفرز كل ما تتمتع به من إيجابيات فنقره ونتمسك به ونبني عليه؛ علنا نصل بذلك إلى تقديم بعض الحلول الممكنة للخروج من حالة الركود إلى حالة الحركة، ومن ثم تجاوز أزماتنا الراهنة.
وذلك بعد أن تتكامل رؤيتنا لهذه الحضارة من زواياها المتعددة، ومن بين هذه الزوايا، أن نرى أنفسنا بمرآة الذات، وكذلك أن نرى أنفسنا بمرآة الآخر، ووفق منظوره وخاصةً إذا كان هذا الآخر يقترب إلى حد ما من الموضوعية في طرحه والنزاهة والحياد في تحليله. وهذا ما وجدته في "أرنو لد توينبي" المؤرخ والفيلسوف، وهذا ما أقره الكثير من الباحثين الذين قرؤوا له وكتبوا عنه.
التسميات
حضارة عربية إسلامية