هجمات الجرمان على الرومان.. استقرار القوط الغربيين في إقليم داشيا من بلاد البلقان وعبور نهر الدانوب والالتجاء إلى الأراضي المهملة في تراقيا

تميزت هجمات الجرمان أواخر القرن الرابع الميلادي بطابع الهجمات المنظمة والهجرات الجماعية الكبيرة وانتهي الأمر إلى استقرار الجرمان الدائم داخل حدود الامبراطورية الرومانية وتأسيس ممالك جرمانية معروفة ظلت قائمة فترات طويلة لتصبح أحد العناصر الهامة والمؤثرة في التاريخ الأوربي الوسيط.

وقد استقر القوط الغربيون في إقليم داشيا من بلاد البلقان الذي تنازلت عنه الامبراطورية الرومانية مرغمة وذلك نحو قرن من الزمان بين 275-375م وذلك قبل أن يعبروا إلى داخل الامبراطورية الرومانية ويقيموا ممالك مستقرة ويقوضوا نفوذ الحكومة الغربية وسلطانها.

وبعد دخول الهون إلى داشيا سنة 376م وهزيمتهم لعشائر القوط الغربيين وإجلائهم عن هذه المنطقة من البلقان توسل القوط الغربيون إلى الإمبراطور فالنز Valens 364-378م أن يهبهم ملجأ يحتمون به من خطر الهون فسمح لهم هذا الإمبراطور بعبور نهر الدانوب والالتجاء إلى الأراضي المهملة في تراقيا ومحاولة استصلاحها ويبدو أن هذا الإمبراطور كان يهدف إلى الاستفادة من قبائل القوط الغربيين خصوصاً وأنهم اعتنقوا المسيحية وتأثروا بالحضارة الرومانية.

ولكن هذا التصرف من الإمبراطور فالنز كانت له انعكاسات سيئة على أمن الإمبراطورية الرومانية، إذ لم يقنع القوط الغربيون أن يكونوا مجرد مواطنين خصوصاً وأنهم لا زالوا يحافظون على طابعهم القبلي فأخذوا يفرضون سلطتهم على السكان المجاورين وبدأوا يستولون لحسابهم الخاص على كل المنطقة إلى غاية نهر الدانوب وأعلنوا الثورة على الإمبراطور فالنز وهزموه في موقعة أدرنة سنة 378م ولقي حتفه على أيديهم وبهذا النصر الكبير بدأوا مرحلة هامة في علاقتهم بالإمبراطورية الرومانية.

وانتهز القوط الغربيون فرصة ضعف الإمبراطورية الرومانية بعد ثيودسيوس العظيم الذي عرف كيف يحقق فترة من السلم معهم دامت ثلاثة عشر سنة- وخصوصاً بعد انقسام الامبراطورية الرومانية إلى قسمين: شرقي وعاصمته القسطنطينية وغربي وعاصمته رافنا Ravenna الأمر الذي أدى إلى تفتت وحدة الإمبراطورية وضعفها.

وقد بادر القوط الغربيون بانتخاب ملك عسكري عليهم في سن الثلاثين ممتلئاً بالحماسة والجسارة وهو ألاريك الذي قاد عشائره من القوط الغربيين وهجم أثينا وتساليا واستولى على كورنثة وإسبرطة في بلاد اليونان وبدأ يعد العدة لغزو إيطاليا وتعرضت هذه الأخيرة لحصار القوط الغربيين ثلاث مرات حتى اضطرت في النهاية لفتح أبوابها لهم سنة 410م فاستباحتها جيوش ألاريك وعاثت فيها فساداً، وفكر هذا القائد الفذ في غزو إقليم شمال إفريقيا الذي كان يمد روما بالغلال وسار بقومه نحو جنوب إيطاليا لعبور البحر المتوسط ولك الموت عاجله إذ توفي في نفس العام.

وعملت الإمبراطورية الرومانية بعد ذلك على صرف الغزاة عن إيطاليا بمنحهم إقليماً آخر ووافق على ذلك القوط الغربيون لأنه لم يكن في خططهم ولا من مصلحتهم القضاء على الإمبراطورية الرومانية فمنحهم الامبراطور هونريوس إقليم لاكتين Aquitaine ‘L في جنوب غرب غالة في المنطقة الممتدة من نهر اللوار حتى حدود جبال البرانس Les Pérénés وكانت جموع الوندال والآلان والسويفيين قد غزوا غالة قبل ذلك فأرادت الامبراطورية الرومانية أن تضرب عصفورين بحجر واحد: إبعاد القوط الغربيين عن إيطاليا ودفع الجماعات الأخرى وهي أكثر بربرية من القوط الغربيين عن غالة.

ولم تمض سوى عدة سنوات حتى كان القوط الغربيون قد استقروا في المنطقة الواقعة بين نهري اللوار والجارون ومن بينها تولوز وبوردو وبواتييه وذلك قبل لأن يخرجوا جموع السويفيين والوندال عن إسبانيا ويقيموا بها مملكة مستقرة ظلت قائمة لفترة طويلة.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال