موقف الحلفاء من ملكية الحسين على العرب.. اعتراض بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واعتباره ملكا على الحجاز فقط واعتراف روسيا

أبرق الامير عبد الله في اليوم التالي للبيعة، نبأ إعلان الملكية الى الدول الحليفة والمحايدة، وطالبهم الاعتراف بوالده ملكا على العرب بعد انفصاله عن الدولة العثمانية، وضرورة اعتبار الحجاز عضوا عاملا في المحافل الدولية وتنظيماتها.

إلا ان هذه الخطوة لم تحظ بتبريك بريطانيا وفرنسا، واصبحت مدار خلاف بين الجانبين لما قد تثيره من المشاكل لمستقبل سياسة الدولتين في المنطقة.
ومن هنا جاء اعتراضها لهذه الخطوة الذي ابلغته للحكومة الحجازية رسميا في 3 تشرين الثاني 1916.

اما الحسين فاعتبر قضية اللقب ـ في برقيته للمعتمد البريطاني في جدة ـ امرا طبيعيا، كأحد الدلائل المهمة على انتصار العرب وانفصالهم عن الحكم العثماني، فضلا عن كونه دون لقب الخلافة الذي خوطب به من قبل بريطانيا قبيل اعلان الثورة، فهل من تفسير لهذا الموقف؟ واذا كان في اللقب ما يثير الحكام العرب الآخرين ـ ذهب الحسين ـ فإنه على علاقة ودية مع جيرانه حكام الجزيرة كإبن سعود والادريسي والامام يحيى، بينما لا يشكل ابن الرشيد دورا مهما في هذه القضية.

بيد أن هذه التصورات لم تكن محل اهتمام الحلفاء، بل واجهته بإلفات نظر جديد في 17 تشرين الثاني، آخذت فيه الحسين تسرعه في اتخاذ هذه الخطوة، ففي الوقت الذي تعده زعيما للشعوب العربية الثائرة ضد الاتراك، فهي تجد نفسها سعيدة بالاعتراف به ملكا شرعيا على الحجاز على ان لا يلقب "باللقب الملكي" الذي قد يثير المشاكل مع الحكام العرب الآخرين ويحول دون تسوية مرضية لاوضاع الجزيرة العربية...

وسيرا مع هذا الموقف انتهجت الدوائر البريطانية في القاهرة موقفا سليبا مماثلا حينما رفض مدير المكتب العربي في القاهرة (Arab Bureau) نشر خبر إعلان الملكية في الصحف المصرية، بل طلب من الفاروقي ـ ممثل الحجاز في القاهرة كتم الخبر وعدم فضحه، في الوقت الذي كانت فيه وزارة خارجية الحجاز تؤكد على الاخير نشره، فلم يكن بوسع الاخير تحدي السلطات البريطانية ومماطلاتها، واكتفى بالاحتجاج الرسمي.

ولم تكتف الحكومة البريطانية بذلك وبعثت الى الملك حسين بمذكرة رسمية في 10/12/1916 اوضحت فيها موقفها وموقف حلفائها من الملكية جاء فيها ان حكومة جلالته ومعها حكومة فرنسا وروسيا مع انها تعتبر ان سموكم الرأس الاسمي للشعوب العربية في ثورتها ضد مساوئ الحكم التركي، ومع سرورها بالاعتراف اعترافا واقعيا بان سموكم الحاكم الشرعي والمستقل للحجاز الا انها لا تستطيع الاعتراف باللقب الذي اعلنتموه والذي يمكن ان يثير التفرقة بين العرب في الوقت الحاضر، ومن ثم يعيق التسوية السياسية النهائية لقضايا الجزيرة العربية على اسس مرضية... ذلك ان التسوية النهائية يجب ان تتم بمواقفة الزعماء العرب الآخرين وهي موافقة لا دليل عليها في الوقت الراهن، وهي تسوية يجب ان تتبع لا ان تسبق النصر في ميدان الحرب. 

وترغب حكومة جلالته ان تلفت انتباه سموكم الى النقاط التالية. تلاحظ الحكومة البريطانية ان اللقب الذي اتخذتموه سيادتكم يقوم على اساس قومي وليس على اساس الاقطار، وهي تسجل ما صدر عنكم من أن ابن سعود والسيد الادريس يحكمان بلاديهما وانه لا رغبة لسموكم في التدخل في شؤونهما...

لقد كان للتصريح الاخير اثره ـ كما يبدو ـ في معنوية الحسين خصوصا وان الثورة ما زالت في بدايتها، ومن هنا جاءت اجابته تأكيدا لصداقته مع بريطانيا، وتظاهر باستعداده للتخلي عن اللقب من اجل ذلك، وراح يناشد (ونجت) بقوله "ارجو من كمالتك ان لا تسيء فهمي بطريقة يمكن ان تسوقك الى عمل اي فكر غير مستحسن، وأحب ان تبلغوني قبل اتخاذ اي اجراء، اذا كان اي شيء من هذا النوع يحدث". 

وفي الوقت الذي كان يواجه فيه الحسين هذا الموقف السلبي، كان ممثله الفاروقي هو الآخر يواجه نفس الموقف في القاهرة فلم تجد نفعا اتصالاته التي اجراها مع المسؤولين البريطانيين والفرنسيين بشأن إقرار لقب الملكية، ونشره في الصحف حتى ايقن الحسين بعبث هذه الجهود فبعث لممثله بالكف عن مساعيه هذه، والتقيد بتعليمات وزارة خارجية الحجاز، والجدير بالذكر ان الحسين كان عازما على ايفاد نجله عبد الله الى القاهرة لتسوية هذه الخلافات، غير ان احتمال مجيء السيد (ونجت) الى جدة ـ كما اعلن في حينه ـ أجّل هذه الخطوة لاجل مناقشتها مع الاخير مباشرة.

وعلى اية حال فقد فرضت بريطانيا وحليفتها فرنسا ارادتهما، وبعثتا في 3 كانون الثاني 1917 بمذكرة اخرى الى الحسين تضمنت اعترافهما به ملكا على الحجاز فقط ويلقب بـ (جلالة ملك الحجاز).
ولم يكن بوسع الحسين وحفظا على كبريائه سوى التظاهر بعدم اهتمامه باللقب، بقدر ما تهمه خدمة البلاد.

وقد نشرت جريدته القبلة خبر اعتراف الحليفتين به ملكا على الحجاز، خلافا لما ذهب اليه البعض في محاولة الشريف منع انتشار هذا الخبر، وامتناعه عن نشره في جريدته الرسمية.

ولم تكتف السلطات البريطانية بتحديد اللقب، وانما سعت لإيجاد الصيغة اللفظية المناسبة لمخاطبته في المستقبل، تخلصا من الالتباسات التي قد تترتب على الالقاب غير الدقيقة والصعوبات الناجمة عن المعاني المتعددة لكلمة "جلالته".

فقد اعترضت السلطات الفرنسية على التعبير الأخير (Majesty) لتعرضه مع اللقب الذي منحه لسلطان مراكش، كما وجدت السلطات البريطانية في القاهرة، انها في الوقت الذي لم تكن فيه راغبة بمنح مثل هذه التسمية لسلطان مصر، تجد نفسها غير مستعدة في تأكيده للملك حسين، غير انها انتهت فيما بعد الى مخاطبة الحسين بـ (Your Lordahip) لاعتدال مدلولها، فضلا عن عدم وجود علاقة دقيقة بين مفردات اللغتين العربية والاوروبية بخصوص هذه اللفظة.

وقد اقتنع ممثلوا كلتا الدولتين بهذه الصيغة واقتدوا بها.
ومع ذلك فإن السلطات البريطانية لم تتحرج في استخدام نفسن اللفظة وخاطبته بصاحب الجلالة في رسالة التهنئة التي بعثتها الحكومة البريطانية الى الحسين بمناسبة مرور عام واحد على الثورة، فضلا على اشارتها للامة العربية.

اما بالنسبة لموقف روسيا القيصرية من اللقب، فكانت اولى الدول التي اعترفت بهذه الخطوة.
وقد بعث وزير خارجيتها المستر (ستورمر) ببرقية الى الامير عبد الله وزير الخارجية الحجاز في 3 محرم 1335/ حوالي 4 تشرين الثاني 1916، ابلغه فيها اعتراف حكومته الرسمي باستقلال البلاد العربية. وملكية والده عليها.

وقد اطلع عبدالله هذا الاعتراف على دول الحلفاء الاخرى، والذي يبدو ان الاعتراف القيصري ـ والذي كان الوحيد الذي حظى به الحسين آنذاك ـ  كان متسرعا، فقد عدلت روسيا القيصرية عن قرارها بعد حين وانضمت بصوتها الى حلفائها في موقفها من لقب الحسين، وهذا ما اتضح لدينا من المذكرات السالفة.

أما بالنسبة لإيطاليا فقد اقرت ما اقرته دول الحلفاء الاخرى في اعتبار الحسين ملكا على الحجاز فقط.
ولعل هناك ما يثير الاستفسار عن دوافع الموقف السلبي الذي اتخذته بريطانيا وفرنسا من قضية تبدو بسيطة وضئيلة الاهمية.

والحقيقة واضحة ـ كما نعتقد ـ ترجع في اساسها الى مطامع الدولتين في المنطقة، وما يعقبها من اسباب فإنما يخضع لهذا المبدأ اذ لم تمض عدة شهور على معاهدة سايكس ـ بيكو السرية ـ المبرمة بين الدولتين في 26 مايس 1916 بما كانت تهدف اليه من تقسيم للمشرق العربي ونهبه.

ففرنسا تجد في خطوة الحسين ما قد يعيق مصالحها في سورية في المستقبل، في الوقت الذي يبدو فيه الامر منطقيا حينما تحاول بريطانيا منذ الآن احتواء فكرة الدولة العربية وحدودها التي رسمتها مراسلات مكماهون مع الشريف حسين، واعتبارها وعودا تفتقر لإعادة نظر وتقدير جديدين، تمهيدا لخلق المناخ المناسب، لاستساغة التناقض ـ الذي سيكشف حتما ـ بين هذه الوعود والاتفاقية.

هذا فضلا عما قد تسببه خطوة الحسين من المشاكل للحكومة البريطانية في علاقاتهما مع الحكام العرب الآخرين الذين سيرفضون حتما ملكية الحسين عليهم، ولما في إقرارها لها تناقض مع الاتفاقيات المعقودة بين بريطانيا وهؤلاء الحكام منذ بداية الحرب بما تضمنته من اعتراف باستقلالهم، مما يجعل تأييدها للحسين امرا صعبا، يضاف الى ذلك ما قد تثيره من المشاكل بين الاوساط الاسلامية في الهند، التي عارضت موقف الحسين من السلطان العثماني.

ولعله من الممكن اعتبار موقف الدولتين الاخير خطوة اولى في سلسلة الخطوات التي وضعت للدفاع عن بنود اتفاقية سايكس ـ بيكو ومكاسبها.

وبغض النظر عن علاقة الحسين بالحركة العربية ومدى ايمانه بها، فإن الدعوة الى انتظام المشرق العربي في كيان سياسي موحد وتحت سلطة واحدة، وبمثل هذه العجالة، أمر لا بد ان تلمس الدولتان خطورته في المستقبل لتعارضه كليا مع الخارطة التي رسمتها الاتفاقية السالفة، ولعل هذا ما يفسر الاستياء الذي أبدته دوائر الدولتين ـ المهتمة بشؤون المنطقة ـ لدى سماعها بهذا النبأ، فسارعت لعرقلة هذه الخطوة واختلاق المعاذير الواهية من اختلافات اقتصادية واجتماعية وسياسية، كمبررات لصعوبة إقرار وحدة أقطار هذه المنطقة.

ولعل في الدعم البريطاني للحركة الصهيونية وتطور الوجود الصهيوني في فلسطين ثم خلق جسم غريب في جسد هذه المنطقة، ما يمكن إضافته لجملة المخططات التي رسمتها السياسة الاستعمارية لإجهاض هذه الفكرة، والتي من الجائز عدها من الخطوات العملية الرائدة في التفكير الوحدوي آنذاك رغم افتقارها الى إمكانيات دفعها وقدرات قيادتها.

لقد ظل الملك حسين يتعرض أحيانا لقضية اللقب، كواحد من الدلائل الملازمة لقيام الدولة العربية، إلا ان حليفته، لم تكن تقابله بأكثر مما اتخذته في السابق، ففي الوقت الذي يستصعب فيه (ونجت) اعتراف حكومته باللقب عند إعلانه سنة 1916، فإنه يؤكد هذه الصعوبة مجددا في سنة 1918، وللأسباب التي أدرجناها سلفا، كأن يكون اعترافها سببا في تفكيك اتحاد الحكام العرب، وعرقلة تنظيم جزيرة العرب على أساس متين، فضلا عن صعوبة تسوية قضية اللقب بدون موافقة عامة من قبل الحكام العرب.

وقد أعرب الحسين عن شكواه بشأن اللقب في مناسبة أخرى في إحدى رسائله الى لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا، بتاريخ 30/12/1921 وبأن اتخاذه لقب ملك البلاد العربية ليس بحرص على اي قصد غرضي لا بل لاطمئنان اقوام العرب وصيانة أذهانهم عن التشويش.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال