أحكام "أنْ" المُخفَّفَةُ المفتوحة:
أذا خُفّفت "أن" المفتوحةُ، فمذهبُ سيبويه والكوفيين انها مُهمَلةٌ لا تعمل شيئاً، لا في ظاهر ولا مُضمر، فهي حرفٌ مصدري كسائر الاحرف المصدرية. وتدخلُ حينئذٍ على الجملِ الإسميّة والفعلية. وهذا ما يظهرُ أنه الحقُّ. وهو مذهبٌ لا تكَلُّفَ فيه.
واما قولُ جَنوبَ الكاهليّة:
لَقَدْ عَلِمَ الضيفُ والمُرْمِلون + إِذا اغْبرَّ أُفْقٌ وَهَبَّتْ شَمالا
بأَنْكَ رَبيعٌ وغَيْثٌ مَريعٌ + وأَنْكَ هُناكَ تكونُ الثِّمالا
وقولُ الآخر:
فلَوْ أَنْكِ في يَوْمِ الرَّخاءِ سَأَلتني + طلاقَكِ لم أبخلْ وأَنتِ صَديقُ
فضَرورَةٌ شعريَّةٌ لا يُقاسُ عليها.
حكم "أنَّ" المخففة بعد فعل:
واعلم أنَّ "أنَّ" المخفّفةَ، إن سبقها فعل، فلا بُدَّ ان يكونَ من افعال اليقينِ او ما يُنزَّلُ منزلَتها، من كل فعل قلبيٍّ، يُرادُ به الظنُّ الغالبُ الراجح. فالاولُ كقوله تعالى: {عَلِمَ أنْ سيكونُ منكم مَرْضى}، ومنه قول الشاعر:
إذا مِتُّ فادفنِّي إِلى جَنْبِ كرْمةٍ + تُرَوِّي عظامي بعْد مَوتي عُروقُها
ولا تَدفِنَنِّي في الْفَلاةِ، فإنَّني + أحافُ إِذا ما مِتُّ، أَن لا أذُوقُها
فخوفهُ ان لا يذوقها بعدَ مماته يقينٌ عنده، مُتحققٌ لديهِ. والثاني كقوله تعالى: {وظنُّوا أنْ لا مَلجأ من اللهِ إِلاّ اليه} وقولهِ: {أيحسَبُ أن لم يَرَهُ أحدٌ}.
فائدة: بعد أفعال العلم واليقين:
(إذا وقعت "أن" الساكنة بعد فعل يفيد العلم واليقين، وجب أن تكون مخففة من "ان" المشددة. وأن يكون المضارع بعدها مرفوعاً، كما رأيت. ولا يجوز أن تكون "أن" الناصبة للمضارع. وان وقعت بعد فعل يدل على الظن الراجح، جاز أن تكون مخففة من (أن) المشددة فالمضارع بعدها مرفوع، وجاز أن تكون (أن) الناصبة للمضارع، فهو بعدها منصوب. وقد قريء بالوجهين قوله تعالى: {وحسبوا أن لا تكون فتنة}، بنصب (تكون) على أن (أن) هي الناصبة للمضارع، ورفعه على انها هي المخففة من (أن) المشددة. وذلك لأن (أن) الناصبة للفعل المضارع تستعمل في مقام الرجاء وللطمع فيما بعدها، فلا يناسبها اليقين، وإنما يناسبها الظن، فلم يجز أن تقع بعد ما يفيد اليقين. و (أن) المخففة هي للتأكيد، فيناسبها اليقين. ولما كان الرجاء والطمع يناسبهما الظن، جاز أن تقع بعده (أن) الناصبة للمضارع المفيدة للرجاء والطمع. وانما جاز أن تقع (أن) المخففة المفيدة للتأكيد. إذا كان ظناً راجحاً، لأن الظن الراجح يقرب من اليقين فينزل منزلته).
الجمل الاسمية والفعلية:
واعلم أنَّ "أن" المخفّفَة لا تدخل إلا على الجمل، عند من يُهملهُا وعند من يُعمِلُها في الضمير المحذوف، الا ما شذ من دخولها على الضمير البارز في الشعر للضّرورة، وقد علمت أنه نادر مخالفٌ للكضير المسموع من كلام العرب.
والجملةُ بعدها إمَّا اسميَّةٌ، وإما فعليَّة.
فان كانت جملةً اسميَّة او فعليَّة فعلُها جامدٌ، لم تحتجْ الى فاصل بينها وبين "أنْ" فالإسميَّةُ كقوله تعالى: {وآخِرُ دعواهُم ان الحمدُ للهِ ربِّ العالمين}.
وكقول الشاعر:
في فِتْيَةٍ، كسُيوفِ الهِنْدِ، قَدْ عَلِمُوا + أنْ هالِكٌ كلُّ منْ يحْفى ويَنْتَعِلُ
والفعليَّةُ، التي فعلُها جامدٌ، كقوله سبحانهُ: {وان ليس للانسان إلا ما سعى}، وقولهِ: {وان عسى ان يكونَ قد اقتَربَ أَجلُهم}.
وإن كانت الجملةُ بعدها فعليّةً، فعلُها متصرّفٌ، فالاحسن والاكثر أن يُفصلَ بينَ "أنْ" والفعلِ بأحدِ خمسة أشياءَ:
1- قد، كقوله تعالى: {ونَعْلَمَ أنْ قد صَدقتَنا}، وقول الشاعر:
شَهِدْتُ بأنْ قَد خُطَّ ما هُوَ كائنٌ + وأنَّك تَمحو ما تَشاءُ وتُثْبِتُ
2- حرف التّنفيسِ: "السينُ او سوف" فالسينُ كقوله تعالى: {عَلِمَ أنْ سيكونُ منكم مَرضى}، وقولِ الشاعر:
زَعَمَ الْفَرزْدَقُ أنْ سَيَقْتُلُ مِرْبَعاً -- أَبشِرْ بطول سَلاَمةٍ يا مِرْبَعُ
وسوف، كقول الآخر:
واعلمْ، فَعِلْمُ الْمَرء يَنْفَعُهُ، + أن سَوْفَ يأْتي كُلُّ ما قُدِرا
3- النفي بِلَنْ او لم او لا، كقوله تعالى: {أيحسَبُ الإنسانُ أنْ لنْ نجمَعَ عظامَهُ} وقوله: {أيحسَبُ أنْ لم يرَهُ أحَدٌ}، وقولهِ: {أفلا يَرَوْنَ أنْ لا يرجِعُ اليهم قَوْلاً}.
4- أداةُ الشرطِ، كقوله تعالى: {وقد نَزَّلَ عليكم في الكتاب أنْ إذا سمعتُم آياتِ الله يُكفَرُ بها ويُسْتهزأ بها، فلا تَقعُدوا مَعَهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيرِهِ} وقولهِ: {وأن لوِ استقاموا على الطريقة لأسقيناهُم ماءً غَدَقاً}.
5- رُبَّ، كقول الشاعر:
تَيَقَّنْتُ أَنْ رُبَّ امريءٍ، خِيلَ خائناً + أَمينٌ، وخَوَّانٍ يُخالُ أَمِينا
وإنما يُؤتى بالفاصل لبيانِ أنَّ "أنْ" هذه مخفَّفةٌ من "أنَّ" لا انها "أن" الناصبةُ للمضارع.
ويجوزُ أن لا يُفصَل بينَ "أنْ" والفعلِ بفاصل، إنْ كان ممَّا يدلُّ على العلم اليقينيّ، كقول الشاعر:
عَلِمُوا أَنْ يُؤَمَّلُونَ، فجادُوا + قَبلَ أَنْ يُسأَلوا بأَعظمِ سُؤْلِ
(وذلك انه لما وجب أن يعتبر (أن) الساكنة مخففة من (أن) المشددة، إذا وقعت بعد فعل يقيني، ولم يجز أن تكون هي الناصبة للمضارع، كما علمت، سهل ترك الفصل بينها وبينه، لأن الفاصل أنما يكون لتمييز احداهما عن الاخرى، للايذان من اول الامر بأنها ليست الناصبة للمضارع، وانما هي المخففة).
التسميات
نحو عربي