المصدر النائب عن فعله.. ما يذكر بَدلا من التلفظ بفعله

المصدرُ النائبُ عن فعله: ما يُذكرُ بَدلاً من التلفظ بفعله. وهو على سبعةِ أنواعٍ:

1- مصدرٌ يَقعُ مَوقعَ الأمر، نحو: "صبراً على الأذَى في المجد"، ونحو: "بَلْهاً الشر، وبَلْهَ الشرَّ".

(و "بله": مصدر متروك الفعل، وهو منصوب على المصدرية بفعله المهل أو بفعل من معناه تقديره: "أترك". وهو إما أن يستعمل مضافاً أو منوّناً. كما رأيت. وأكثر ما يستعمل اسم فعل أمر بمعنى "أترك").

2- مصدرٌ يقعُ موقعَ النَّهي، نحو: "إجتهاداً لا كسلاً، جِداً لا تَوانياً* مَهلاً لا عجلةً* سُكوتاً لا كلاماً* صَبراً لا جَزَعاً". وهو لا يقع إلاّ تابعاً لمصدر يُرادُ به الأمر كما رأيت. 

3- مصدرٌ يقعُ موقعَ الدعاءِ، نحو: "سَقياً لك ورَعياً* تَعساً للخائن* بُعداً للظالم، سُحقاً للَّئيم* جَدعاً للخبيثِ* رحمةً للبائس* عذاباً للكاذب* شقاءً للمهمل* بُؤْساً للكسلان* خَيبة للفاسق* تَبّاً للواشي* نُكساً للمتكبِّر".

ومنعَ سيبويه أن يُقاسَ على ما وَرَدَ من هذه الألفاظ. وأجاز الأخفش القياسَ عليها. وهو ما يظهرُ أنه الحقُّ.

(ولا تُستعمل هذه المصادر مضافة إلا في قبيح الكلام. فان أضفتها فالنصبُ حتمٌ واجب، نحو: "بُعدَ الظالم وسُحقَهُ". ولا يجوز الرفع لأنّ المرفوع يكون حينئذ مبتدأ ولا خبرَ له وان لم تُضفها فلك أن تنصبها، ولك أن ترفعها على الإبتداء، نحو: عذاباً له، وعذابٌ له".
والنصب أولى. وما عُرَّف منها بأل فالافضل فيه الرفع على الإبتداء، نحو: "الخيبةُ للمفسد").

ومما يُستعمَلُ للدُّعاءِ مَصادرُ قد أُهملت أفعلها في الاستعمال، وهي: "ويلَهُ، وويَبَهُ، ووَيْحَهُ، ووَيسَهُ". وهي منصوبةٌ بفعلها المُهمَل، أو بفعل من معناها.

("ويل وويب": كلمتا تهديد تقالانِ عند الشتم والتوبيخ. و "ويح وويس": كلمتا رحمة تقالان عند الإنكار الذي لا يراد به توبيخ ولا شتم؛ وإنما يراد به التنبيه على الخطأ. ثم كثرت هذه الألفاظ في الاستعمال حتى صارت كالتعجب، يقولها الإنسان لمن يجب ولمن يبغض.

ومتى أضفتها لزمتِ النصب، ولا يجوز فيها الرفع، لان المرفوع يكون حينئذ مبتدأ ولا خبر له. وان لم تُضفها فلك أن ترفعها، ولك أن تنصبها. نحو: "ويلٌ له وويحٌ له، وويلاً له وويحاً له" والرفع أولى).

4- مصدرٌ يقعُ بعدَ الاستفهام موقعَ التوبيخ، أو التعجُّب، أو التوَجعِ، فالأول نحو: "أجُرأةً على المعاصي؟"، والثاني كقول الشاعر:
أَشوْقاً؟ وَلَمَّا يَمْضِ لي غَيْرُ لَيْلَةٍ -- فَكَيْفَ إِذَا خَبَّ المطِيُّ بِنَا عَشْرَا

والثالث كقول الآخر:
أَسِجْناً وقتْلاً واشتياقاً وغُرْبَةً -- وَنَأيَ حَبيبٍ؟ إنَّ ذا لَعَظيم 

وقد يكونُ الاستفهامُ مُقدَّراً، كقوله:
خُمُولاً وإِهْمالاً؟ وَغَيْرُك مُولَعٌ -- بِتَثْبيتِ أَركانِ السِّيادَةِ والْمَجْدِ
أي : أخمولاً؟ وهو هنا للتوبيخ.

5- مَصادرُ مسموعةٌ كثرَ استعمالُها، ودلَّتِ القرائنُ على عاملها، حتى صارت كالأمثال، نحو: "سَمعاً وطاعةً* حمداً لله وشُكراً* عَجَباً* عجَباً لكَ*، ويُقالُ: أتفعلُ هذا؟ فتقول: "أفعلُهُ، وكراهةً ومَسَرَّةً"، أو "لا أفعلُهُ ولا كَيْداً ولا همّاً" و "لافعلنَّهُ ورَغماً وهواناً".

وإذا أفرَدْتَ "حمداً وشكراً" جاز إظهارُ الفعل، نحو: "أحمدُ اللهَ حمداً" و "أشكرُ اللهَ شًكراً". أمّا "لا كُفراً" فلا يُستعمل إلا معَ "حمداً وشكراً".

ومن هذه المصادر "سُبحانَ اللهِ، ومَعاذَ اللهِ".
ومعنى "سبحانَ الله". تَنزيهاً للهِ وبراءَةً له مما لا يليقُ به.
ومعنى "مَعاذَ اللهِ": عياذاً باللهِ، أي: أعوذُ به.
ولا يُستعملان إلا مُضافينِ.

ومنها "حِجْراً - بكسر الحاءِ وسكونِ الجيم - يقال للرجل: أتفعلُ هذا؟ فيقولُ: "حِجْراً"، أي: منعاً، بمعنى: أمنعُ نفسي منه، وأُبعِدُهُ وأبرأُ منه، وهو في معنى التعوُّذ: ويقولون عند هجوم مكروهٍ: "حِجْراً محجوراً"، أي: منعاً ممنوعاً. والوصف للتأكيد. وتقول لِمن أراد أن يخوض فيما لا يجوزُ الخوضُ فيه، أو أراد أن يأتيَ ما لا يحِلُّ: "حِجْراً محجوراً"، أي: حراماً مُحرَّماً.

ومنها مصادرُ سُمعتْ مُثنَّاةً، نحو: "لَبَّيكَ وسَعدَيك وحَنانَيكَ ودَوالَيكَ وحَذارَيكَ". وهي مُثنّاةٌ تَثنيةً يُرادُ بها التكثيرُ، لا حقيقةُ التَّثنيةِ.

 (و "لبيك وسعديك": يستعملان في إجابة الداعي، أي: "أجابة بعد اجابة واسعاداً بعد اسعاد"، أي كلما دعوتني أجبتك وأسعدتك، ولا يستعمل "سعديك" إلا تابعاً للبيك. ويجوز أن يستعمل لبيك وحده. و "حنانيك": معناه تحنناً بعد تحنن. ومعنى قولهم: "سبحان الله وحنانيه": أسبحه وأسترحمه. و "دواليك" معناه مداولة بعد مدالة. و "حذاريك": معناه حذراً بعد حذر).

6- المصدرُ الواقعُ تفصيلاً لمُجمَلٍ قبلَهُ، وتَبييناً لعاقبتهِ ونتيجتهِ كقوله تعالى: "فَشُدُّوا الوَثاقَ، فإمّا مَنّاً بعدُ، وإمّا فِداءً" وكقول الشاعر:
*لأَجهَدَنَّ، فإمَّا دَرْءَ مَفْسَدَةٍ * تُخْشى، وإمَّا بُلُوغَ السُّوْلِ والأَمَلِ*

7- المصدرُ المؤكّدُ لمضمونِ الجملة قبلهُ. سواءٌ أَجيءَ بهِ لمجرَّد التأكيدِ (أيٍ: لا لدفعِ احتمال المجازِ، بسبب أنَّ الكلامَ لا يحتملُ غيرَ الحقيقةِ) نحو: "لكَ عليَّ الوفاءُ بالعهد حَقّاً"، أم للتأكيد الدافعِ إرادةَ المجاز نحو: "هو أَخي حقّاً". فإنَّ قولكَ: "هو أَخي" يحتملُ أنك أردتَ الأخوَّة المجازيَّةَ، وقولكَ: "حقّاً، رفعَ هذا الاحتمال.
ومن المصدر المؤكّدِ لمضمونِ الجملةِ قولهم: "لا أفعله بَتّاً وبَتاتاً وبَتَّةً والبَتَّةَ".

(ويجوز في همزة "البتة" القطع والوصل، والثاني هو القياس لأنها همزة وصل. واشتقاق ذلك من البت، وهو القطع المستأصل، لأن من يقول ذلك يقطع بعدم الفعل. ويُستعمل من كل أمر يمضي لا رجعة فيه ولا التواء).

فكلَّ ما تقدَّمَ من هذه المصادر، النائبة عن أفعالها، يجبُ فيه حذفُ العامل كما رأيتَ. ولا يجوزُ ذكرهُ. لأنهاإنما جِيءَ بها لتكونَ بدلاً من أفعالها.

واعلم أنْ ليسَ المصدرُ، الذي يُؤتى بهِ بَدلاً من التلفظ بفعله، من المصادرِ المؤَكّدةِ (كما زعم جمهورٌ من النُّحاةِ)، وإنما هو ضرب آخرُ من المصادرِ، كما علمتَ. ولو كان مؤَكداً لم يَجُز حذفُ عامله، لأنه إنما أُتيَ به ليؤكّدَ عاملُه ويُقوِّيهِ. فحذفُ العاملِ بعدَ ذلك يُنافي ما جِيءَ بالمصدرِ لأجله. ولو كان مؤكداً لجاز ذكر العامِلِ معَهُ. ولم يَقُلْ بذلك أحدٌ منهم، مع إجماعِهم على أنه يجوزُ ذكرُ العاملِ ومصدرِهِ المؤَكدِ له معاً. نحو: {يا أيُّها آمنوا صلُّوا عليه وسلموا تسليماً}.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال