هرب رجل سبئي من اليمن إسمه «دوس ذوثعلبان» بعد مقتل النجرانيين بواسطة «ذي نواس»، واشتكى به إلى النجاشي الملك «أكسوم» (الحبشة)([1])، واستناداً إلى كتابة «بروكوبيوس» كان له اسم «هلستيوس»([2])، وطلب امبراطور الروم يوستينيانوس في رسالة من النجاشي التدخل في جنوب الجزيرة العربية([3])، وجعل أيضاً السفن تحت أمر الأحباش([4])؛ ولهذا فانّ تحريك الروم للأحباش كان سبباً في الهجوم على اليمن.
تقارن تحرك جيش الأحباش مع عيد «بانكوت» عام 525 ميلادي وإقامة مراسم دينية عظيمة في كنيسة أكسوم الجامعة([5])، فأرسل أكسوم سبعين ألف رجل إلى اليمن بقيادة أحد قادة الحبشة باسم أرياط([6]).
كان أرياط موفّقاً عند وصوله إلى اليمن، فهزم «ذونواس» وحكم لعدة سنوات([7])، وعندما رأى الأحباش أرض الحميريين الخصبة ألقوا رحالهم في ذلك المكان([8]), ولكن بعد مدة ثار أحد قادة أرياط عليه واسمه (أبرهة بن الأشرم)([9]) وقضى على أرياط واستولى على حكومة اليمن([10]).
لقد تحمّل الحميريون الكثير من الخسائر في هجوم الأحباش، وما دخل عليهم من الذلّ بعد العزّ الذي كانوا فيه، وما هُدم من حصون اليمن، وكان أرياط قد هدم ما هدم من أرض اليمن، مثل: سِلحين وبينون وغمدان، وهي حصون لم يكن في بقية المناطق مثلها، فقال:
هَوْنك ليس يرُدُّ الدمع ما فاتا -- لا تهلكي أسفاً في ذِكْر مَنْ ماتا
أبعد بينونَ لاعينٌ ولا أثرٌ -- وبعد سلحينَ يبني الناسُ أبياتا
تذكر الروايات الإسلامية أنّ هجوم الأحباش على اليمن کان لمساعدة المسيحيين، ولكن هناك مسألة اُخرى أيضاً كان لها تأثير على تحرك الأحباش، وهي: المنافسة والعداوة الشديدة من الناحية السياسية والعسكرية والاقتصادية بين الروم والفرس، وهو أحد الأسباب في إثارة الروم للأحباش للسيطرة على اليمن؛ لکي يتمكنوا من مصادر اليمن الاقتصادية والتجارية، ويستفيدوا أيضاً من قوة الأحباش والحميريين في القضاء على الساسانيين.
كما أنّ «بروكوبيوس» يذكر«جوستي نين»([11]) (لقد فكّروا أن يّتحدوا مع الأحباش والحميريين ويقضوا على الفرس)([12])، وأشار إلى (أنّ «جوستي نين» أرسل رسولاً اسمه «جوليانوس»([13]) إلى «هلستيوس» والأحباش، وطلب منهم أن يّتحدوا مع الروم في محاربة الفرس، وطمأن الأحباش أن لا يشتروا الحرير من الهند ويبيعوه للروم؛ حتى يستفيدوا هم أيضاً ويمنعوا من وصول أموال الروم إلى أيدي أعدائهم يعني الفرس، وطلب من الحِميَريين أن يحملوا على أرض فارس بجيشٍ جرّار»([14]).
ولكن لم يستطيعوا أن يعملوا أي شيء، لأنّ الفرس كانوا أقرب للهند، وكانت تجارة الحرير تحت سيطرتهم، ولم يكن بمقدور جيش الحِميَريين الزحف إلى أرض فارس بسبب وسعة الصحراء البائرة، والسفر في تلك الصحراء صعبٌ جدا،ً ولا يوجد عند الحميريين القوة المماثلة واللجوجة مع الفرس. وبعد أن ثبّت أبرهة ملكَهُ وعد جوستي نين بالهجوم على أرض فارس، ولكنّه أدرك خطورة ذلك فترك هذا العمل([15]).
ولم تسلم اليمن من المنافسة العسكرية والاقتصادية بين القوتين الروم والفرس.
وعلى رغم بعض الإنجازات العمرانية التي قامت بها دولة الأحباش أيام حكمهم على اليمن لتثبيت سلطتهم، مثل: ترميم سدّ مأرب، وبناءالحصون والمعابد، لكن وبسبب الظلم والجور واجهوا فتناً كثيرة.
وكما ينقل من لوح حجري أنّ أبرهة بمناسبة ترميم سدّ مأرب الموجود في تاريخ (657)حميري الموافق (542) ميلادي ([16]) والمسجل برقم glaser 618 وcih 514 يخبرعن ثورة يزيد بن كبشة من كبار اليمن المعروفين، الذي كان عاملاً ونائباً لأبرهة على قبيلة كندة، فثار ضد أبرهة بمساعدة الأقيال السبئية، فاستطاع أبرهة ضرب هذه الثورة بمساعدة بعض القبائل اليمنية([17]).
بعد تسلّط الأحباش على اليمن هدموا المدن وقتلوا الرجال وأسروا النساء والأطفال ([18]), وكانت اُمنية أهل اليمن إخراج الأحباش بسبب أعمال الظلم، فقد ثاروا عدة مرات، لكنّهم في كل مرة تبوء ثورتهم بالفشل؛ لأنّ هذه الثورات لم تكن موحّدة([19]).
وقد أوجد الأحباش العداوة والمنافسة بين الأقيال وزعماء القبائل، مما ساعد هذا الأمر على الهرج والمرج السياسي في اليمن وتضعيف الزعماء اليمنيين في مواجهة الأحباش.
وقد اُشير في اللوح الحجري لأبرهة المذكور سابقاً إلى حضور وفود وسفراء «بعنوان محشكت» الروم والحبشة وفارس، وهذا يدل على أهمية اليمن عند القوتين في ذلك الزمان، كذلك يظهر من هذا اللوح المكتوب أنّ اُبرهة ملك الدولة، ولديه نائب للسلطنة مستقل.
كان أبرهة مسيحياً متعصّباً ذا اهتمام بنشر المسيحية بين أهل اليمن، وبناء الكنائس والمعابد بكثرة منها في صنعاء ونجران وظُفار، وكان الأحبار والمبشّرون يبلّغون المسيحية بكثرة بين الحميريين([20]).
وكانت أشهر كنيسة بناها أبرهة بمساعدة وفيرة من النجاشيين في صنعاء «قُلَّيس»([21])، أصل هذا الاسم من اكلزياى«ekklesia» يونانية بمعنى المعبد([22]).
لقد أثار تردّد الزوّار على مكة وعدم الاهتمام بقُلَّيس وازدهار تجارة هذه المدينة حفيظة أبرهة، فظهر ردّ الفعل عند أبرهة بالنسبة لمكانة مكة.
ويذكر في الروايات الإسلامية أنّ رجلاً من كنانة لوّث معبد قُلَّيس! فأقسم أبرهة أنّه سوف يقوم بهدم الكعبة.([23]) أو ذكروا: أنّ الرجل أحرق قُلَّيس فاحترقت([24]).
لهذا توجّه أبرهة إلى مكة ومعه ستّين ألف رجلٍ من الأحباش واليمنيين مع عدد من الفيلة، كما جاءت قصّته في القرآن([25])، فبعث الله عليه الطير الأبابيل فقضت على جيشهِ، وعندما رجع إلى اليمن حكم اليمن بعد أبرهة الأشرم ولده «أكسوم»، فعمَّ أذاه سائراليمن، ثم ملك بعده مسروق بن أبرهة، فاشتدت وطأته على اليمن. وعمّ أذاه الناس وزاد على أبيه وأخيه في الأذى([26]).
ولقد مرّت([27]) على اليمن أيام صعبة زمن تسلط الأحباش والذي بدأ من عام (525) ميلادي حتى عام (575) ميلادي([28])، وعانوا من الذل والتحقير (وعملوا على سلب كل مقاليد الحكم من يد اليمنيين على رغم من وجود ثمان أسر حميرية كانت تتبادل الملك قبل دخول الحبشة)([29]).
[1].السيرة النبوية، القسم الأوّل، ص37.
[2]. بروكوييوس، حروب الفرس والروم، ترجمة محمد سعيدي، ص98.
[3]. فرانتس التهايم، المساعدات الاقتصادية في العهد القديم، ترجمة أمير هوشنك أميني، ص134.
[4]. المصدر السابق، ص135.
[5]. المساعدات الاقتصادية في العهد القديم، ص139.
[6].تاريخ الطبري:1 / 546.
[7]. السيرة النبوية، القسم الأوّل، ص37.
[8]. بروكوبيوس، (جنگها ايران و روم)، ترجمة محمدسعيدي، ص98.
[9] Abraha.
[10]. السيرة النبوية، القسم الأوّل، ص42.
[11] Justinian.
[12]. بروكوبيوس، چنگهای ايران و روم (حروب الفرس والروم) ترجمة محمدسعيدي، ص93.
[13] Julianus.
[14]. بروكوبيوس، چنگهای ايران و روم (حروب الفرس والروم) ترجمة محمدسعيدي،، ص99وص116.
[15]. المصدر السابق، ص100.
[16]. يعتقد البعض أنّ هدم السد في هذه السنة غيرصحيح encyclopaedia universalis, paris, 1985, saba.
[17]. المفصّل في تاريخ العرب: الجزءالثالث، ص483.
[18]. مطهر بن طاهر المقدسي، البدءوالتاريخ، الجزءالثالث، ص185.
[19]. محمود راميار، في مدخل عام مولد النبي، ص155.
[20]. المفصّل في تاريخ العرب، الجزءالثالث، ص506.
[21]. السيرة النبوية، القسم الأوّل، ص43.
[22].محمود راميار في مدخل عام مولد النبي’، ص100.
[23]. السيرة النبوية، القسم الأوّل، ص45.
[24]. مطهر بن طاهر المقدسي، البدء و التاريخ، الجزءالثالث، ص186.
[25]. القران الكريم، سورة الفيل.
[26]. مروج الذهب، الجزءالثاني، ص80.
[27]. من الكتاب ص80؛ جواد علي، المفصل في تاريخ العرب، الجزءالثالث، ص524.
[28]. السيرة النبوية، القسم الأوّل، ص62.
[29]. عبدالرحمن عبدالواحد الشجاع، اليمن في صدرالإسلام، ص25.
التسميات
تاريخ اليمن