لقد حكم الأحباش اليمن طوال نصف قرن، وخلال فترة حكمهم انهارت الاُصول السياسية والثقافية والاقتصادية تحت سلطتهم، فذهب أحد أهالي اليمن واسمه سيف بن ذي يزن من قبيلة «يزن» الحميرية لطلب المساعدة من ملك الفرس «خسرو أنوشيروان» لأجل التحرّر من ذلّ الأحباش ومعاناتهم، فبعث الملك الساساني جيشاً يبلغ عدده 7500 رجلاً([1]) بقيادة وهرز([2]) من كبار الأبطال، واسمه «خرزاد ابن نرسي»([3]) «واسبهبد الديلم»([4]) إلى اليمن.
وتذكرالمصادر الإسلامية أنّ إرسال الجيش إلى اليمن تلبية لطلب سيف بن ذى يزن. ولكنّا إذا تأملنا في العلاقة بين الروم والفرس في العلاقات الاقتصادية والسياسية نجد أنّ هنالك مسألةً اُخرى لها تأثيرها في هذه العلاقة، فقد كان أنوشيروان ينوي مدّ نفوذه على السواحل الجنوبية للخليج الفارسي، وينهى سيطرة الروم والمتحالفين معهم، ويسيطر على الأسواق والموانىء التجارية ومضيق باب المندب الاستراتيجي.
ويظهر من نصّ ابن إسحاق: أنّ المكانة الاقتصادية لليمن التي شرحها سيف لأنوشيروان كان لها تأثير في ذلك([5]).
والجدير بالذكر أنّ المصادرالإسلامية ذكرت أنّ عدد القوات ثمانمائة رجل وهرز من السجناء. ولا يمكن أن يكون هذا الرقم صحيحاً؛ لأنّ أنوشيروان يعلم جيداً أنّه في اليمن لن يواجهه الأحباش فقط، بل إنّه سيذهب لمواجهة المنافع الاقتصادية والسياسية للروم والمتحالفين معهم على أمل مساعدة اليمنيين والحميريين، ولكن ليس من اللائق لمصالحه أن يتقدم للحرب مع قوه ضعيفة؛ إذ يصل عدد جيش الأعداء إلى المائة ألف رجل([6]).
ومن هنا يتضح أنّ قصة إرسال ثمانمائة سجين إلى اليمن موضوعة لأجل التفاخر وإظهار عظمة الفرس وتضعيف الأحباش. كذلك جعل قائدٍ عليهم من أساورته يقال له: وهرز ويلقب بألف([7]) رجل، وكان كسرى يعدله بألف سوار([8])، والأمر المهم عند أنوشيروان هو تحرك الجيش.
لقد نجح وهرز في القضاء على جيش مسروق بعد المواجهة التي دارت بين وهرز وسيف مع جيش مسروق، فقُتِل الكثير من الأحباش وتفرق الباقون، ودخل وهرز صنعاء([9])،وكتب عن انتصاره إلى أنوشيروان وأمر أن يجعل سيف ملك اليمن ويعين له الضرائب والخراج وأن يدفعها كل سنة([10])، وقرر أن يتزوج الفرس من نساء اليمن ولا يتزوج اليمنيون نساءهم، فتوّج وهرز سيف بتاج كان معه وجعله في ملكه على اليمن، وخلف هنالك جماعة من أصحابه([11]) ورجع هو إلى فارس، وأتت سيف الوفود من العرب تُهنّئه بعود الملك إليه وأشراف العرب وزعماؤها، فدخلوا إليه وهو في أعلى قصره المعروف بغمدان، فقتلوه، وكان ملكه أربع سنين([12]).
ويمكن القول: إنّ سيف قُتِل بتحريك من الفرس؛ لأنّه عندما وصل خبر الثورة إلى أنوشيروان بعث وهرز مع أربعة الآف رجل إلى اليمن فقضی على الثوره، فامره أنوشيروان عليها([13]) وبعث عماله على مخاليف اليمن([14]).
حكم وهرز اليمن خمس سنوات([15])، وتوفّي بعدها، وأمّر بعده ابنه المرزبان ابن وهرز حتى هلك، فأمّر بعده البينجان بن المرزبان([16]), ثم أمّر بعده خرّخسْرَ، ثم عزله خسرو برويز وبعث مكانه باذان، وهو نفس الشخص الذي تسلّم رسالة رسول الله’([17]) في السنة الثامنة للهجرة، ودخل الإسلام ودخل معه أبناء فارس الإسلام الذين كانوا في اليمن([18]), فكتب باذان إلى رسول الله’ يعلن إسلامه، وبعث وفد إلى المدينة للبيعة مع النبي’، فقال لهم رسول الله’: >أنتم منّا وإلينا أهل البيت<([19]).
وجاء بعد باذان خليفة له يسمّي دادويه، فأسلم، وبثّ دادويه دعاته في الأبناء فأسلموا([20]).
إنّ دخول الفرس المقيمين في اليمن إلى الإسلام بحرية له أهمية بالغة، حيث له تأثير كبير في انتشار الإسلام في اليمن، ومن ثم بلاد فارس.
كان ملك فارس تيسفون يدير اليمن مباشرةً، ويأخذ الحكّام الفرس خراج([21]) الأرض والعشيرة والأموال، وكانوا يقيمون([22]) سوق عدن في أوّل شهر رمضان، وسوق صنعاء في النصف من شهر رمضان، وكانوا يأخذونها ويرسلونها([23]) لملك الفرس عن طريق البر والبحر وكونوا جيشاً من الفرسان لضرب حركات المخاليف([24]).
دخل الفرس إلى اليمن وكوّنوا لهم جماعات في نقاط مختلفة من البلاد، وجعلوا بينهم وبين أهل اليمن قرابة سببية، وقد تزايد عددهم على مرّ الزمن، واُطلق عليهم في المصادر (الأحفاد)، ومن بعدهم (الأبناء). لم يكن الأبناء يتمتعون بوحدة القبيلة، وكانوا مشهورين باسم عوائلهم، مثل: باذان وسردويه ومهرويه وزنجويه وبردويه وجندويه وبوذرجة، وقد ظهروا في اليمن بصورة عوائل ملكية)([25]).
كانت اُسر باذان من الاُسر المالكة، فقد كانت تملك الأرض، وهم تجّار كبار في صنعاء وذمار([26]), وكان لديهم بستان خاص اِسمه «الدينباذ» في صنعاء([27]).
لقد حكم الفرس من عام (575) ميلادي كقادة على اليمن، ولكن مؤخّراً قلّت سيطرتهم ولم تكن قوتهم واسعة في كل مخاليف اليمن، بل انحصرت على مدينتي صنعاء وعدن وما حول([28]) هاتين المدينتين.
وبعد أن ضعفت سيطرة الفرس قام رؤساء القبائل وكبار اليمن المعروفون بإدارة المناطق والسهول التي تحت سيطرتهم بشكل مستقل، وكانت لهم علاقات فيما بينهم كما في منطقة الجوف، وقد أسّس رؤساء قبائل مذحج وخولان اجتماعاً في مذاب الجوف، وجهّزوا جيشاً عظيماً ضد الحاكم الفارسي باذان، ولكن لم تجب دعوتهم زعماء القبائل الاُخرى، وعقد باذان معاهدة لمواجهة هذا الاتحاد مع عمرو بن حارث الشاكري وعمرو بن يزيد بن ربيع الحاشدي من قبيلة همدان، على أن يساعد كلّاً منهم الآخر ضد الأعداء([29]).
إنّ إتحاد مذحج وخولان ضد الفرس والعهد بين باذان وهمدان يدلّ على الضعف السياسي للحكّام الفرس عند ظهور الإسلام. ولم يبيّن الرازي سبب دخول جميع همدان في هذا الاتحاد([30]), ولكنّ الحقيقة أنّ همدان قصدت أن توسّع نفوذها في المناطق التي تحت سيطرة مذحج في المناطق العليا للجوف وتواجهه مذحج وحلفاؤهم ([31])؛ لأنّ هذا الاتحاد يهدد منافعها.
وقد ضعفت مكانة الفرس السياسية بين قبائل معد، ففي الوقت الذي بعث باذان القافلة محملة بالملابس اليمنية والمسك والعنبر والخُرج والأحزمة الذهبية لخسرو برويز.
فقطع عليهم الطريق في مكان اسمه «حمض»([32]) بنو حنظلة بن يربوع، فرع من بني تميم، حيث حملوا عليهم ليلاً وقتلوا حماة القافلة، وكانوا من بني جعيد وأسوران، ونهبوا أموالهم وقسّموها بينهم، وبعد وصول الخبر إلى الأسوران الذين كانوا في هجر تحركوا إلى بني حنظلة وقاتلوهم قتالاً شديداً في مكان اسمه «حرض»، فانهزم الفرس وقُتلوا بصورة وحشية([33]).
إنّ هزيمة الساسانييّن في هذه الحرب وفي حرب ذي قار([34]) عكست نظرية الاُسطورة في عدم هزيمتهم، وإتاحة الفرصة للمسلمين في الفتوحات الإسلامية القادمة في منطقة الساسانيين.
والجدير ذكره أنّ اليمن عانت لأكثر من قرن من السيطرة الاجنبية، فإلى حين دخول الإسلام كانت مقاليد الحكم ونظم الدولة بأيدي غيرهم. وقد أدّى التنافس بين الامبراطوريتين: الروم والفرس وتسلّطهم على البلاد، ونفوذهم الاقتصادي والسياسي فيها إلى تخريب البلاد من الناحية السياسية والاقتصادية والثقافية.
والدليل على ذلك أن عدداً قليلاً من الآثار القديمة والمخطوطات بالخط المسند بقيت من هذا العهد ويظهر من المعاهدات والعقود المبرمة مع من قبلهم إعراض دول اليمن القديمة مثل مَعين وقتبان وسبأ عن اليمن، وسيطرة النظم القبلية على اليمن، وكانت هذه القبائل في نزاع مع بعضها البعض، حتى أنّ زعماء القبائل وكبار الحميريين لم يستطيعوا مقاومة الأحباش، مما أدى إلى استعمار اليمن، ولإخراج الأحباش من البلاد توسّلوا بقوات الفرس، ولكن لم تكن لديهم القدرة على المحافظة على دولتهم لمدة أربع سنوات، ممّا اضطرّ الساسانييّن للتدخل مباشرةً في اليمن.
ويقوّي الاحتمال أنّ أنظمة اليمن القديمة لم تكن تتمتع بنظام واحد يكون الملك في اُسرة واحدة ثابتة ومستمرة. ويذکر الطبري: «لمّا كنّا قدّمنا ذكر ملوك اليمن أنّه لم يكن لملكهم نظام أنّ الرئيس منهم، إنّما كان ملكاً على مخلافه ومحجره لا يجاوز ذلك، فإن نزع منهم نازع أونبغ منهم نابغ فتجاوز ذلك وان بعدت مسافة سيره من مخلافه فإنما ذلك منه عن غير ملك له موطّد ولا لآبائه ولا لأبنائه، ولكن كالذي يكون من بعض من يشرد من المتلصّصة فيغير على الناحية بعد الناحية باستغفاله أهلها، فإذا قصده الطلب لم يكن له ثبات، فكذلك كان أمر ملوك اليمن، كان الواحد منهم بعد الواحد يخرج عن مخلافه ومحجره أحياناً، فيصيب کلّ ما يمّر به، ثم يتشمّر عند خوف الطلب راجعاً إلى موضعه ومخلافه، من غير أن يدين له أحد من غير أهل مخلافه بالطاعة أويؤدي إليه خرجاً»([35]).
ولهذا لم يكن هناك في اليمن حكم وراثي بشكل مستمر حتى ظهور الإسلام، بل حكمت اليمن قبائل متعددة، ومن القرن الرابع الميلادي أصبح نظام الحكم في سبأ نظام قبلي، وحكم الأجانب اليمن طوال قرن قبل الإسلام (وتمزّقت الدولة الحميرية مع قدمتها، ومع سقوطها أدى إلى انقراض حضارة كاملة)([36]).
[1].ابن خلدون، العبر، الجزءالثاني، ص63.
[2]Vahriz.
[3]. حمزة بن حسن الإصفهاني ، سني ملوك الأرض، ترجمة جعفر شعار، ص143.
[4]. مروج الذهب، الجزءالثاني، ص80.
[5].السيرة النبوية: القسم الأوّل، ص63.
[6]. السيرة النبوية: القسم الأول، ص562.
[7]. «كريستين سن اَ رتور»، إيران في عصر الساسانيين، ترجمة رشيد ياسمى، ص432.
[8]. تاريخ الطبري: الجزءالأوّل، ص562.
[9]. السيرة النبوية: الجزءالأوّل، ص64.
[10]. تاريخ الطبري: الجزءالأوّل، ص560.
[11]. مروج الذهب، الجزءالثاني، ص82.
[12]. المصدر السابق، ص83.
[13]. تاريخ الطبري: الجزءالأوّل، ص565.
[14]. المصدر السابق، ص564.
[15]. أبو حنيفة الدينوري، الأخبار الطوال، ص93.
[16]. السيرة النبوية، القسم الأوّل، ص69.
[17]. السيرة النبوية، القسم الأوّل ، ص69.
[18]. تاريخ الطبري: الجزءالأوّل، ص297.
[19]. السيرة النبوية: القسم الأوّل، ص69.
[20]. البلاذري، فتوح البلدان، تحقيق رضوان محمدرضوان، ص114.
[21]. تاريخ الطبري: الجزءالأوّل، ص565.
[22]. محمد بن حبيب، المحبّر، رواية أبي سعيد الحسن بن الحسين السّكري، بها تصحيح ايلزه ليختن شتيتر، ص266؛ اليعقوبي، التاريخ، المجلد الأوّل، ص350.
[23]. ابن خلدون، العبر، الجزءالثاني، ص65.
[24]. أحمد بن عبدالله الرازي، تاريخ مدينة صنعاء، تحقيق حسين بن عبدالله العمري، ص37.
[25].Abdal muhsin madaj m. al – madaj, the demen in early islam 9 233 a political history, London, Ithaca press, 1988, p6.
[26]. أحمد بن عبدالله الرازي، تاريخ مدينة صنعاء ص89و133؛ حسن بن عبدالله أحمد الهمداني، صفة جزيرة العرب، ص237.
[27]. أحمد بن عبدالله الرازي، المحبّر، ص133.
[28]. محمد بن حبيب، تاريخ مدينة صنعاء، ص266.
[29]. أحمد بن عبدالله الرازي، ص37.
[30]. المصدر السابق، ص38.
[31].Abd al – muhsin madaj m al madaj, op, cit, p8.
[32]. معجم البلدان: الجزءالثاني، ص305(ذيل كلمة حمض).
[33]. ابوعبيدة معمّر بن المثنی، أيام العرب قبل الإسلام ، الجزءالثاني، ص67.
[34]. المصدر السابق، ص496.
[35]. تاريخ الطبري، الجزءالأوّل، ص450، ابن خلدون، العبر، الجزءالأوّل، ص58.
[36]. مونت جمري وات، عربستان قبل از إسلام، ص60.
التسميات
تاريخ اليمن