تَنشأُ بلاغةُ التشبيهِ منْ أنهُ ينتقلُ بكَ من الشيءِ نفسِه، إلى شيءٍ طريفٍ يُشبهُهُ، أو صورةٍ بارعةٍ تُمثلُه.
وكلما كانَ هذا الانتقال ُبعيداً، قليلَ الخطورِ بالبال، أو ممتزجاً بقليلِ أو كثيرٍ من الخيالِ، كان التشبيهُ أروعَ للنفس، وأدعَى إلى إعجابها واهتزازِها.
فإذا قلتَ: فلانٌ يشبهُ فلاناً في الطولِ، أو إنَّ الأرضَ تشبهُ الكُرة َفي الشكلِ، لم يكنْ في هذه التشبيهاتِ أثرٌ للبلاغةِ، لظهورِ المشابهةِ، وعدمِ احتياجِ العثورِ عليها إلى براعةٍ، وجُهْدٍ أدبيٍّ، ولخلوّها من الخيالِ.
وهذا الضربُ من التشبيهِ يُقْصَدُ به البيانُ والإيضاحُ، وتقريبُ الشيءِ إلى الأفهامِ، وأكثرُ ما يُستعملُ في العلوم والفنونِ.
ولكنكَ تأخذُكَ رَوْعةُ التشبيهِ، حينما تسمعُ قول المعرّي يصفُ نجماً[1]:
يُسْرعُ اللمْح في احْمِرارٍ كما تُسْـ -- ـرِعُ في اللمْح مُقْلَةُ الغضبانِ
فإنَّ تشبيهَ لمحاتِ النجمِ وتألقهِ مع احمرارِ ضوئه، بسرعةِ لمحةِ الغضبانِ من التشبيهاتِ النادرة، الّتي لا تنقادُ إلا لأديبٍ.
ومن ذلك قولُ الشاعر[2]:
وكأن النجوم بينَ دجاها -- سُننٌ لاحَ بَينهُنَّ ابتداعُ
فإنَّ جمالَ هذا التشبيهِ جاءَ من شعورِكَ ببراعةِ الشاعر، وحِذْقِه في عقدِ المشابهةِ بين حالتينِ، ما كانَ يخطرُ بالبالِ تشابهُهما، وهما حالةُ النجومِ في رُقعةِ الليل، بحالِ السُّننِ الدِّينية الصحيحةِ، متفرقةً بين البدَعِ الباطلةِ،ولهذا التشبيهِ روعةٌ أخرى، جاءت من أنَّ الشاعرَ تخيَّلَ أنَّ السُّننَ مضيئةٌ لمَّاعةٌ، وأنَّ البِدعَ مظلمةٌ قاتمةٌ.
و من أبدعِ التشبيهاتِ قولُ المتنبي[3]:
بَليتُ بِلى الأطْلالِ إنْ لم أقِفْ بها -- وُقوفَ شَحيحٍ ضاعَ في التُّرْبِ خاتمُهْ
يدعو الشاُعر على نفسهِ بالبلى والفناءِ، إذا هو لم يقفْ بالأطلال، ليذكرَ عهدَ من كانوا بها، ثم أرادَ أن يصوِّرَ لك هيئةَ وقوفهِ، فقال: كما يقفُ شحيحٌ فقدَ خاتمهُ في التراب، من كان يُوَفَّقُ إلى تصويرِ حالِ الذَّاهلِ المتحيرِ المحزونِ، المطرقِ برأسه، المنتقلِ من مكانٍ إلى مكان ٍفي اضطرابٍ ودهشةٍ، بحالِ شحيحٍ فقد في الترابِ خاتماً ثميناً.
هذه بلاغةُ التشبيهِ من حيثُ مَبلغُ طرافتهِ، وبُعد مرماه، ومقدار ما فيه من خَيالٍ.
أما بلاغتهُ من حيثُ الصورةُ الكلاميةُ الّتي يوضع فيها، فمتفاوتةٌ أيضاً.
فأقلُّ التشبيهاتِ مرتبة في البلاغة ما ذُكرتْ أركانهُ جميعُها، لأنَّ بلاغةَ التشبيهِ مبنيةٌ على ادعاءِ أنَّ المشبَّهَ عينُ المشبَّهِ به، ووجودَ الأداةِ، ووجهَ الشبه معاً، يَحُولانِ دُون هذا الادّعاءِ; فإذا حذفتِ الأداةُ وحدَها، أو وجهُ الشبَّهِ وحدَهُ، ارتفعتْ درجةُ التشبيهِ في البلاغةِ قليلاً، لأنَّ حذفَ أحدَ هذين يُقوّي ادعاءَ اتحادِ المشبَّه والمشبَّه به بعضَ التقويةِ ـ أمَّا أبلغُ أنواعِ التشبيهِ «فالتشبيهُ البليغُ»، لأنه مبنيٌّ على ادعاءِ أنَّ المشبَّهَ و المشبَّهَ به شيءٌ واحدٌ.
هذا ـ وقد جرَى العربُ والمُحدَثون على تشبيهِ: الجوادِ بالبحرِ والمطرِ، والشجاعِ بالأسدِ، والوجهِ الحسنِ بالشمسِ و القمرِ، والشهمِ الماضي في الأمور بالأحلامِ، والوجهِ الصبيحِ بالدينارِ، والشَّعرِ الفاحمِ بالليلِ، والماءِ بالسيفِ، والعالي المنزلةِ بالنَّجمِ، والحليمِ الرَّزينِ بالجبَلِ، والأمانِي الكاذبةِ بالعنقاءَ، والماءِ الصافي باللُّجَيْنِ، والليلِ بموجِ البحرِ، والجيشِ بالبحرِ الزَّاخرِ، والخَيْلِ بالرِّيحِ والبَرْقِ، والنجومِ بالدُّررِ والأزهارِ، والأسنانِ بالبَرَدِ واللؤلؤِ، والسفنِ بالجبالِ، والجداولِ بالحيَّاتِ المُلتويةِ، والشيبِ بالنهارِ ولَمعِ السيوفِ، وغُرَّةِ الفرسِ بالهلالِ، ويشبِّهونَ الجبانَ بالنَّعامةِ والذبابةِ، واللئيمَ بالثعلبِ، والطائشَ بالفرَاشِ، والذليلَ بالوَتدِ، والقاسيَِ بالحديدِ والصخرِ، والبليدِ بالحمارِ، والبخيلِ بالأرضِ الُمجْدِبةِ.
[1]- سر الفصاحة - (ج 1 / ص 87) والبلاغة الواضحة بتحقيقي - (ج 1 / ص 4) - لمح البرقِ والنجمِ: لمعانهُما، ولمحُ البصرِ: اختلاسُ النظرِ.
[2]- نهاية الأرب في فنون الأدب - (ج 2 / ص 277) والإيضاح في علوم البلاغة - (ج 1 / ص 71) ومفتاح العلوم - (ج 1 / ص 152) ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص - (ج 1 / ص 132).
[3]- تاريخ النقد الأدبي عند العرب - (ج 1 / ص 334) وشرح ديوان المتنبي - (ج 1 / ص 188) والوساطة بين المتنبي وخصومه - (ج 1 / ص 123) والعمدة في محاسن الشعر وآدابه - (ج 1 / ص 97) وتراجم شعراء موقع أدب - (ج 49 / ص 83) ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص - (ج 1 / ص 412).
التسميات
علم البلاغة