تأكيد المدح بما يشبه الذم [1]:
له ثلاثةُ أساليبَ:
- الأسلوبُ الأولُ: أنْ يستثنَى من صفةِ ذمٍّ منفيةٍ عن الشيءِ صفةَ مدحٍ بتقدير دخولها فيهِ، نحو قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} [الواقعة/25، 26].
فالتأكيدُ فيه من جهةِ أنه كدعوَى الشيء ببينةٍ، وأنَّ الأصلَ في الاستثناءِ الاتصالُ، فذكر ذاتهُ قبلَ ذكر ما بعدها يوم َإخراجِ الشيء مما قبلها، فإذا وليها صفة ُمدح ٍجاءَ التأكيدُ.
وكقول النابغة [2]:
ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ -- بهِنَّ فُلُولٌ مِن قِراعِ الكَتائِب
وإنما كان هذا الاستثناءُ من المبالغةِ في المدح، لأنه قد دلَّ به على أنه لو كان فيهم عيبٌ غيره لذكرَه، وأنه لم يقصدْ إلا وصفهُم بما فيهم على الحقيقةِ.
وقول الشاعر[3]:
ولا عَيْبَ في معروفِهمْ غيرَ أنَّهُ -- يُبَيِّنُ عَجْزَ الشَّاكرينَ عن الشُّكْرِ
ومن أحسن ما قيل في ذلك قول حاتم الطائي [4]:
وما تشتكيني جارتي غيرَ أنَّني -- إذا غابَ عنها بعلُها لا أزورُها
- الأسلوبُ الثاني: أنْ يثبتَ للشيءِ صفةَ مدحٍ، ويأتيَ بعدها بأداةِ استثناءٍ تليها صفةُ مدحٍ أخرى والنوع الأول أبلغ، كقوله صلى الله عليه وسلم يحكي عن رجل من أهل الكتاب: «إِنَّ رَجُلاً كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَتَاهُ الْمَلَكُ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ فَقِيلَ لَهُ هَلْ عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ قَالَ مَا أَعْلَمُ، قِيلَ لَهُ انْظُرْ. قَالَ مَا أَعْلَمُ شَيْئًا غَيْرَ أَنِّى كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ فِى الدُّنْيَا وَأُجَازِيهِمْ، فَأُنْظِرُ الْمُوسِرَ، وَأَتَجَاوَزُ عَنِ الْمُعْسِرِ. فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ»[5].
وأصل الاستثناء في هذا الضرب أيضاً أن يكون منقطعاً لكنه باق على حاله لم يقدر. متصلاً فلا يفيد التأكيد إلا من الوجه الثاني من الوجهين المذكورين.
وكقول الشاعر [6]:
ولا عَيْبَ فيهِ غيرَ أنِّي قصدْتُهُ -- فأَنْستْنِيَ الأَيَّامُ أَهلاً وموطِنَا
وكقول النابغة الجعدي [7]:
فَتًى كَملَتْ أَخلاقُهُ غيرَ أَنّه -- جوادٌ فما يُبقي من المالِ باقِيا
وأمَّا قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} [الواقعة/25-27]، فيحتمل الوجهينِ.
وأمَّا قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (62) سورة مريم، فيحتملهما، ويحتملُ وجهاً ثالثاً وهو أن يكونَ الاستثناءُ من أصله متصلاً، لأنَّ معنى السلامِ هو الدعاءُ بالسلامةِ، وأهلُ الجنةِ عن الدعاءِ بالسلامة أغنياءُ، فكان ظاهره ُمن قبيل اللغوِ وفضولِ الكلام ِلولا ما فيه من فائدة الإكرامِ.
- الأسلوبُ الثالث: هو أن ْ يأتيَ الاستثناءُ فيه مفرَّغاً، كقوله تعالى: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } (126) سورة الأعراف ، أي وما تعيبُ منا إلا أصلَ المناقبِ والمفاخرِ كلها ،وهو الإيمانُ بآياتِ الله.
ونحوه قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} (59) سورة المائدة، فإنَّ الاستفهامَ فيه للإنكارِ.
واعلم أنَّ الاستدراكَ في هذا الباب يجري مجرَى الاستثناءِ كما في قول أبي الفضل بديعِ الزمان الهمذانيِّ [8]:
هُوَ البَدْرُ إلاَّ أَنَّهُ البَحْرُ زَاخِراً سِوَى أَنَّهُ الضِّرْغامُ لكنَّهُ الوَبْلُ
وكقول الشاعر [9]:
وجوهٌ كأَكْبادِ المُحِبِّينَ رقَّةً -- ولكنَّها يومَ الهيَاجِ صُخُورُ
[1]- تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر - (ج 1 / ص 13) ونهاية الأرب في فنون الأدب - (ج 2 / ص 303) والإيضاح في علوم البلاغة - (ج 1 / ص 118) ومفتاح العلوم - (ج 1 / ص 185) ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص - (ج 1 / ص 283و285 و392 ) وجواهر البلاغة للهاشمي - (ج 1 / ص 16) والبلاغة الواضحة بتحقيقي - (ج 1 / ص 9) وعلم البلاغة الشيرازي - (ج 1 / ص 6).
[2]- أمثال العرب - (ج 1 / ص 170) وزهر الأكم في الأمثال و الحكم - (ج 1 / ص 124) والأمثال لابن سلام - (ج 1 / ص 19) وشرح ديوان المتنبي - (ج 1 / ص 209) والبديع في نقد الشعر - (ج 1 / ص 26) وشرح أدب الكاتب - (ج 1 / ص 48) والعمدة في محاسن الشعر وآدابه - (ج 1 / ص 125) والحماسة البصرية - (ج 1 / ص 51) ومحاضرات الأدباء - (ج 1 / ص 135) وسر الفصاحة - (ج 1 / ص 94) والإيضاح في علوم البلاغة - (ج 1 / ص 118).
أي إن كان فلول السيف من قراع الكتائب من قبيل العيب فأثبت شيئاً من العيب على تقدير أن فلول السيف منه وذلك محال فهو في المعنى تعليق بالمحال، كقولهم: حتى يبيض الفار، فالتأكيد فيه من وجهين أحدهما أنه كدعوى الشيء ببينة، والثاني أن الأصل في الاستثناء أن يكون متصلاً فإذا نطق المتكلم بألا أو نحوها توهم السامع قبل أن ينطق بما بعدها أن ما يأتي بعدها مخرج مما قبلها فيكون شيء من صفة الذم ثابتاً وهذا ذم، فإذا أتت بعدها صفة مدح تأكد المدح لكونه مدحاً على مدح وإن كان فيه نوع من الخلابة.
[3]- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص - (ج 1 / ص 284) والبلاغة الواضحة بتحقيقي - (ج 1 / ص 9).
[4]- نهاية الأرب في فنون الأدب - (ج 2 / ص 303) وأمالي المرزوقي - (ج 1 / ص 54) والعمدة في محاسن الشعر وآدابه - (ج 1 / ص 126) وتراجم شعراء موقع أدب - (ج 11 / ص 1) وأساس البلاغة - (ج 1 / ص 380).
[5]- أخرجه البخاري برقم (3451).
[6]- تراجم شعراء موقع أدب - (ج 76 / ص 325) ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص - (ج 1 / ص 284) والبلاغة الواضحة بتحقيقي - (ج 1 / ص 9).
[7]- شرح ديوان المتنبي - (ج 1 / ص 289) والبديع في نقد الشعر - (ج 1 / ص 26) والعمدة في محاسن الشعر وآدابه - (ج 1 / ص 125) ولباب الآداب للثعالبي - (ج 1 / ص 41) وزهر الآداب وثمر الألباب - (ج 1 / ص 384) وسر الفصاحة - (ج 1 / ص 94) وتحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر - (ج 1 / ص 13) والشعر والشعراء - (ج 1 / ص 57) والإيضاح في علوم البلاغة - (ج 1 / ص 118).
[8]- الإيضاح في علوم البلاغة - (ج 1 / ص 118) ومفتاح العلوم - (ج 1 / ص 185) ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص - (ج 1 / ص 284).
[9]- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص - (ج 1 / ص 285) والبلاغة الواضحة بتحقيقي - (ج 1 / ص 9) وعلم البلاغة الشيرازي - (ج 1 / ص 6).
التسميات
علم البلاغة