حقيقة المعلقات وتعليقها على أستار الكعبة.. القصائد السبع. السبع الطوال الجاهليات. القصائد العشر

لقد ورد أنَّ العرب قد علقوا بعض قصائدهم بين أستار الكعبة، وقد أذاع هذا الخبر ابن عبد ربه، حيث يقول: (كان الشعر ديوان العرب خاصة، والمنظوم من كلامها، والمقيد لأيامها، والشاهد على أحكامها، حتى لقد بلغ من كلف العرب به وتفضيله له أنْ عمدت إلى سبع قصائد تخيرت من الشعر القديم . فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلقتها بين أستار الكعبة، فمنه يقال مذهبة امرئ القيس، ومذهبة زهير) وهي سبع قصائد، اضافة إلى معلقتي امرئ القيس وزهير بن أبى سلمى . يذكر ابن عبد ربه : معلقة طرفة بن العبد، وعنترة بن شداد، وعمرو بن كلثوم، ولبيد بن ربيعة والحارث بن حلزة اليشكري.

وقد أكد ابن خلدون خبر تعليق المعلقات بأركان البيت الحرام مشيراً إلى أنه كان يتوصل إلى تعليق الشعر من كان له قدرة على ذلك بقومه وعصبيته ومكانه من مضر، وذكر أصحاب المعلقات: امرأ القيس، والنابغة الذبيانى، وعنترة بن شداد وطرفة بن العبـد، وعلقمة بـن عبدة، والأعشى، وقال ابن رشيق القيـروانى.
وكانت المعلقات تسمى المذهبات، وذلك لأنها اختيرت من سائـر الشعـر فكتبت في القباطـي بماء الذهب وعلقت علـى الكعبة.

ويقول البغدادى: (إنَّ العرب كانت فى الجاهلية يقول الرجل منهم الشعر في أقصى الأرض فلا يعبأ به، ولا ينشده أحد حتى يأتي مكة في موسم الحج، فيعرضه على أندية قريش، فإنْ استحسنوه روي وكان فخرا لقائله، وعُلق على ركن من أركان الكعبة حتى ينظر إليه، وإن لم يستحسنوه طـرح ولم يعبأ بـه، وأول من علق شعره في الكعبة : امرؤ القيس، وبعده علقت الشعراء وعدد من علق شعره سبعة: ثانيهم طرفة بن العبد، ثالثهم زهير، رابعهم لبيد بن ربيعة، خامسهم عنترة، سادسهم الحارث بن حلزة، سابعهم عمرو بن كلثوم، هذا هو المشهور).

وإذا كان القدامى قد ورد عنهم خبر تعليق بعض القصائد على أستار الكعبة فإنَّ هناك من القدامى وهو ابن النحاس، وهو عالم معاصر لابن عبد ربه، ينفى أنْ تكون المعلقات قد علقت على أستار الكعبة، بل يؤكد أنَّ حمّاداً هو الذي جمعها، ويقول ابن النحـاس (وأما قـول من قـال إنها علقت في الكعبة فلا يعـرفه أحد من الرواة وأصح ما قيل في هذا : إنَّ حماداً الراوية لما رأى زهد الناس في حفظ الشعر جمع هذه السبع وحضهم عليها، وقال لهم هذه المشهورات فسميت القصائد المشهورة لهذا).

وقد توقف المستشرقون عند تعليق المعلقات على أستار الكعبة، إذ يرى (نولدكه) أنَّ المؤرخين العرب قد استعملوا كلمة علق بمعنى عقد أي سمط عنوانا لكتبهم، وهذا ما جرى للمعلقات التي سميت بالسموط، ويرجح ليال أنَّ المعلقات مشتقة من العلق، وهو ما يضن به من الأشياء والحلي والثياب.

ويعتقد فون كريمر أنها مشتقة من علق، أي كتب، لأنَّ هذه القصائد ظلت تنتقل عن طريق الرواية الشفوية ثم انتهى بها الأمر إلى التدوين، وهو تعليل يرد عليه أنَّ استعمال الفعل علق بمعنى دوّن متأخـر وكان مقصوراً في استعمال العصور الوسطى على أوساط النساخ«.

ويذهب من العرب المعاصرين الدكتور شوقي ضيف إلى تأكيد نفي أسطورة تعليق المعلقات في الكعبة، وهو بهذا يتابع آراء المستشرق ليال في تصوره هذا، ويؤكد لو أنَّ الباحثين تنبهوا إلى المعنى المراد بكلمة المعلقات ما لجأوا إلى هذا الخيال البعيد، ومعناها المقلدات والمسمطات، وكانوا يسمون قصائدهم الطويلة الجيدة بهذين الاسمين وما يشبههما.

ويؤكد في مكان آخر أنَّ هذه القصائد لم تعلق بالكعبة كما زعم بعض المتأخرين، وإنما سميت بذلك لنفاستها أخذاً من كلمة العلق بمعنى النفيس.

ويظن الزبيدي أنَّ فكرة التعليق هذه نشأت عن تفسير كلمة (السموط) التي عرفت لها عند بعض الرواة الأوائل، وتعني (القلائد المعلقة) أو (المعلقات) إطلاقا.

وقد نسي بمرور الزمن معنى الكلمة الأصلي، وأصبحت كلمة (المعلقات) هي اللفظ الشائع، فدعا ذلك القصاص إلى ابتداع فكرة تعليقها على الكعبة في محاولة لتفسير اللفظ الجديد، فصادف ذلك قبولاً بين عامة الناس أو أوساطهم.

أما ناصر الدين الأسد فقد بقي متردداً بين النفي والإثبات ولذلك فهو يقول إننا (لا نملك وسيلة قاطعة للإثبات أو النفي، ولا نحب أن نعتسف الطريق ونقتحم كما يقتحم غيرنا وكل ما نستطيع أنْ نقوله إنَّ الاعتراض الذي قدمه القدماء كاعتراض ابن النحاس، والذي قدمه المحدثون لا يثبت ـ في رأينا ـ للتحقيق والتمحيص، فإذا ما استطعنا أن ننفي هذا الاعتراض بقي القول الأول بكتابة المعلقات وتعليقها ـ سواء في الكعبة أو خزانة الملك أو السيد ـ قولاً قائماً ترجيحاً لا يقيناً. إلى أنْ يتاح له اعتراض جديد ينفيه، أو سند جديد يؤيده ويثبته).

ويرى الطاهر مكي (أنَّ هذه القصائد المختارة قد أخذت أكثر من اسم حسب العصور أو الشراح، فهي (المعلقات) أو (القصائد السبع) أو (السبع الطوال الجاهليات) أو (القصائد العشر) ومن بين كل هذه المسميات فإنَّ اسم (المعلقات) هو الذي أثار كثيراً من الجدل والخلاف وصيغت حوله قصة لا تزال موضع الشك بين العلماء والباحثين).

 ونخلص من هذا كله أنَّ هناك جدلاً حول تسمية المعلقات وخبر تعليقها، وأميل إلى أنَّ هذه القصائد لم تعلق على أستار الكعبة، لأن خبر تعليقها قد ورد أول مرة عند ابن عبد ربه الأندلسي، ومن ثم تردد أكثر لدى باحثين مغاربة مثل ابن رشيق وابن خلدون ولذلك ألفينا من يعد كتابة القصائد بماء الذهب إنما هي تفاويه أندلسية اخترعوها لتفسير تسمية غامضة لا يعرفونها بدل أن يقولوا (الله أعلم).

وكان الأندلسيون بحكم موقع بلادهم، في بعدها عن الشرق، وطبيعتها، وتعدد مناخها، وتنوع جوائحها من سيول وأمطار، ورعود وفيضان، يميلون إلى الغرائب والعجائب، ويؤخذون بها، ويبالغون في روايتها، حتى لو تجاوزت الممكن وتجافت الواقع.

 ومن الجدير بالذكر أنَّ عالماً معاصراً لابن عبد ربه وهو ابن النحاس قد نفى أمر تعليقها على أستار الكعبة، ولعل أهم ما يقدح في خبر تعليق هذه القصائد على جدران الكعبة خلو مصادر القرون الأربعة الأولى بعد الإسلام منه وظهوره متأخرا في المصادر التالية، هذا فضلا عن خلو أخبار فتح مكة من أخبار هذه القصائد، إذ لـو كانت معلقة على جدران الكعبة ابان الفتح لورد ذكرها.

ويضاف لهذا أنّ اختلاف رواة الشعر في ضبط أبيات تلك المعلقات، دليل في حد ذاته على عدم صحة التعليق، إذ لو كانت تلك القصائد معلقة ومشهورة، وكانت مكتوبة لما وقع علماء الشعر في هذا الاختلاف، يضاف إلى ذلك أنَّ بعض هذه القصائد ـ وبخاصة قصيدة امرئ القيس ـ كانت تشتمل على فاحش الكلام، مما لا يليق بالعرب أن يعلقوا هذه القصيدة في مكان يقدسونه ويحجون إليه.

كما أنه من المؤكد أنَّ حماداً الراوية هو أول من جمعها، فكيف يصح أن تكون معلقة على أستار الكعبة، وقد عمد حماد إلى جمعها وإذاعتها بين الناس.

إنَّ ما سبق ذكره لا يعني أنَّ العرب لم يدونوا إطلاقا بعض أبيات شعرائهم، لكن هذه الطريقة لم تكن المثلى في انتقال الشعر الجاهلي، وذلك لعدة أسباب:

1- صعوبة استخدام أدوات الكتابة، إذ كان العرب يستخدمون الجلود والعظام وجريد النخل.

2- إنَّ القرآن الكريم، وهـو كتـاب المسلمين المقـدس، لم يجمـع في مصحف واحـد إلا بعـد وفاة الرسـول صلّى الله عليه وآله، كمـا أنَّ الحـديث النبوي بقي معتمداً فـي أغلبه على الرواية إلى مرحلة لاحقة.

3- ليس هناك أي دليل مادي قاطع يؤكد أنَّ العرب قد كتبوا قصائدهم، وانتقلت إلى الأجيال اللاحقة، وأنَّ ما يذكر من أخبار عن كتابة بعض شعـرائهم لمقطوعات لهم ان صح، فانـه لا يدل على أنهم فكـروا فعـلاً في تدوين أشعارهم إنما هي قطع تكتب على رحل أو حجر أو جلد لأبناء القبيلة أو بعض أفرادها بحادث.

ومثل هذا ما يذهب إليه بلاشير على الرغم من أنه يؤكد أنَّ بعض الرواة في بعض المراكز الحضرية قد دونوا كتابة بعض القصائد الجاهلية، ولكن ذلك يعوزه الدليل حتى لو سلمنا بصحة وقوع ذلك فإن التدوين لم يشمل إلا جزءاً من آثار الشعراء الحضريين أمـا البقية فقد سارت في الصحراء عن طريق الـرواية الشفوية.

وخلاصة القول فإنَّ الرواية الشفوية وحدها تـؤلف الطـريقة الأساسية لنشر الآثار الشعرية منذ اللحظة التي قـذف فيها الشـاعر وراويـته تلك الآثار في خـضـم الجماهير.

ويذهب عبد المنعم الزبيدي إلى أنَّ ما يؤكد أنَّ نظم الشعر وروايته قبل الإسلام كانا قد قاما على المشافهة دون الكتابة هو أنَّ الخطوط التي عرفها العرب آنذاك لم تكن تصلح لتدوين الشعر، وبخاصة تدوين القصائد الطوال منه.

فالخط النبطي الشمالي المشتق من الآرامي... يخلـو من الإعجام أو النقط .. ومن رسم الأحرف الصائتة القصيرة المعروفة بالحركات... ومن علامة التنوين ...

إنَّ هذه النواقص الخطيرة في الخط العربي أو النبطي المتأخر... كان لابد لها أنْ تحول بين هذا الخط واستعماله في تدوين القصائد الجاهلية...

ومن العسيـر جداً قراءة قصيدة طويلة قد دونت بهذا الخط وفهمها على النحو الذي أراده صاحبها أو على نحو قريب له.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال