شرح وإعراب: فلو أنّ الأطبّا كان حولي + وكان مع الأطبّاء الشّفاة - إذن ما أذهبوا ألما بقلبي + وإن قيل الشّفاة هم الأساة

فلو أنّ الأطبّا كان حولي + وكان مع الأطبّاء الشّفاة
إذن ما أذهبوا ألما بقلبي + وإن قيل الشّفاة هم الأساة

الشفاة: جمع شاف.
وتروى «السقاة» جمع ساق، وهو الذي يسقي الدواء للمريض.
والأساة: جمع آس، وهو الطبيب المعالج.

والشاهد في البيت الأول «كان» بضم النون، فإنّ هذه الضمة، بدل واو الجماعة المحذوفة والأصل «كانوا حولي».
وجواب «لو» إذن ما أذهبوا.، في أول البيت الثاني.
وهذا الشعر تناقله كثير من الرواة، بدون عزو.

ونسبة الشعر إلى قائل، لا يدلّ دائما على صحته، فكم من شعر منحول.
وكثير من الشواهد المفردة في كتب النحو واللغة، لم تعز لقائل، ولكنها مسموعة من أهل الفصاحة الذين نقلت اللغة عنهم.
حيث كان علماء اللغة يرحلون إلى أعماق البادية لسماع اللغة.

وحذف واو الجماعة من (كان) التي نقلنا البيت الأول شاهدا لها، نقل الفرّاء في «معاني القرآن» أنها من لغة هوازن وعليا قيس.

ونقل هذه اللغة، ثعلب في أماليه، وابن الأنباري في الإنصاف، وابن يعيش في شرح المفصل، وابن هشام في المغني.

وعلى هذه اللغة يخرّج الرسم القرآني، وقراءته التي جاء فيها حذف الضمير من آخرها.
فقد أورد الفرّاء البيت الشاهد عند قوله تعالى في سورة البقرة فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي، وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [البقرة: 150].
قال: قوله: واخشوني: أثبت فيها الياء، ولم تثبت في غيرها.

وكلّ ذلك صواب، وإنما استجازوا حذف الياء، لأن كسرة النون تدل عليها، وليست العرب تهاب حذف الياء من آخر الكلام، إذا كان ما قبلها مكسورا.
من ذلك «أكرمن» و «أهانن» في سورة الفجر.

وقوله أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ [النمل 36].
ومن غير النون «المناد» [ق 41]
و «الداع» [القمر 6 - 8]. وهو كثير.
يكتفى من الياء بكسرة ما قبلها. ومن الواو، بضمة ما قبلها، مثل قوله:
سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق 18].
ويَدْعُ الْإِنْسانُ [الإسراء 11].. وما أشبهه.

وقد تسقط العرب الواو، وهي واو جمع، اكتفاء بالضمة مثلها، فقالوا: في «ضربوا» قد ضرب.
وفي قالوا: قد قال.
وأنشدني بعضهم:
إذا ما شاء ضرّوا من أرادوا + ولا يألو لهم أحد ضرارا

وأورد صاحب «الكشاف» البيت في سورة (المؤمنون) شاهدا لقراءة من قرأ «قد أفلح» بضم الحاء، اجتزاء بالضمة عن الواو والأصل: قد أفلحوا، على لغة «أكلوني البراغيث».

ونقل ابن هشام في المغني، في الجهة الرابعة من الكتاب الخامس عن التبريزي في قراءة يحيى بن يعمر عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ [الأنعام 154].
بالرفع، أن أصله «أحسنوا» فحذفت الواو اجتزاء عنها بالضمة.
كما قال: إذا ما شاء ضروا.. البيت.

ثم قال: وحذفت الواو.
وإطلاق «الذي» على الجماعة ليس بالسهل.
والأولى قول الجماعة إنه بتقدير مبتدأ. أي: هو أحسن.
وأما قول بعضهم في قراءة ابن محيصن لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ. [البقرة 233].
إنّ الأصل، أن يتموا بالجمع، فحسن، لأنّ الجمع على معنى (من) ولكن أظهر منه قول الجماعة: إنه جاء على إهمال أن الناصبة .. 

أقول: ومجموع هذه الأقوال، يدلّ على أنّ ما جاء في بيت الشعر، ليس ضرورة شعرية، وإنما هو لغة.
وقد أطنبت في نقل الأقوال السابقة لأنني سعدت بالعثور عليها، وأردت أن أسعد قرّاء القرآن بها ذلك أن حذف الضمائر من بعض آيات الكتاب العزيز، يظنّه كثير من الناس رسما قرآنيا موروثا عن المصحف العثماني، لا دلالة له. وأنه يصحّ رسمه بالخط العربيّ المتداول، ولا يغيّر المعنى.

والصحيح أن الرسم القرآني، ليس موروثا وإنما هو منقول عن الصحف التي كتبت في العهد النبويّ.
ولذلك نقل عن الإمام مالك، والإمام أحمد، النهي عن كتابة القرآن بالرسم الإملائي الذي استحدث في زمن الخليل بن أحمد، وفي الأزمنة التالية.

فكلّ رسم قرآني له دلالته اللغوية والمعنوية، وهو لغة من لغات العرب، قد يكون وصلنا شاهد لها، وما لم يصلنا شاهده، فإنه قد يكون ضاع وفقد، ولم يصل إليه علماء اللغة، وقد قالوا إنه لم يصلنا من شعر العرب إلا أقلّه.

ذلك أن القرآن وصلنا مسموعا ومكتوبا بتواتر لم يثبت لشيء من اللغة.
أقول: وفي الذي نقلته حول هذا الشاهد، دليل على جهل ابن خلدون الذي يزعم في مقدمته أن الصحابة الذين كتبوا المصحف، لم يكونوا يحذقون الخط العربي، فوقع منهم ما يخالف الرسم.

فابن خلدون أعطي منزلة في تاريخ الثقافة الإسلامية لا يستحقها، وما رفعه فوق قدره إلا جهلة العرب الذين تتلمذوا على الأوربيين والمستشرقين. والله أعلم.

[الإنصاف/ 385، وشرح المفصل/ 7/ 5 وج 9/ 80، والهمع/ 1/ 58، والخزانة/ 5/ 229، 233].
أحدث أقدم

نموذج الاتصال